اليوناني دراسة الخلق وتصوير خلجات النفس، وأن افتتانه بجمال الجسم وصحته يجعله أقل نضجاً من تماثيل مصر التي تنطق بالرجولة الكاملة ومن تصوير الصينيين النافذ العميق. غير أن ما نتلقاه عن هذا الفن اليوناني من دروس في الاعتدال، والطهارة والنقاء، والتناسق البادي في النحت والعمارة في عصر اليونان الزاهر- كل هذا من أثمن تراث الإنسانية.
وإذا كانت الحضارة اليونانية تبدو لنا الآن أقرب "وأحدث" من أية حضارة أخرى قبل فلتير، فما ذلك إلا لأن اليونان كانوا يحبون العقل بقدر ما يحبون الشكل، ولذلك كانوا جريئين في سعيهم إلى تفسير الطبيعة على أسس مستمدة من الطبيعة نفسها، ولقد كان تحرير العلم من قيود الدين، وتطور البحث العلمي تطوراً مستقلاً عن كل ما عداه، كان هذا التحرر والتطور مظهرين من مغامرات العقلية اليونانية الجاحدة. وعلماء الرياضة اليونان هم واضعو قواعد حساب المثلثات، وحساب التفاضل والتكامل، وهم الذين بدءوا وأتموا دراسة القطاعات المخروطية، ووصلوا بهندسة الأبعاد الثلاثة إلى درجة من الكمال النسبي ظلت محتفظة بها دون تبديل إلى أيام ديكارت وبسكال. وقد أنار دمقريطس ميدان علم الطبيعة والكيمياء بأكمله بنظريتهِ الذرية. واستطاع أركميدز في أوقات تسليته وفراغه من الدراسات المجردة أن يبتدع من الأجهزة والآلات الجديدة ما يكفي لأن يقرن اسمه بأعظم الأسماء في سجل الاختراعات. وقد سبق أرستارخوس كوبرنيق في كشوفه الفلكية ولعله هو الذي أوحى إليهِ بها (١)، وأقام هباركوس على يدي كلوديوس بطليموس نظاماً فلكياً يعد من المعالم الخطيرة في تاريخ الثقافة البشرية. ورسم أنكساغورس وأنبادوقليس الخطوط الأساسية لنظرية النشوء والارتقاء. وصنَّف أرسطو وثاوفراسطوس
(١) كان كوبرنيق على علم بنظرية أرستارخوس القائلة إن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية لأنه ذكر ذلك في فقرة اختفت من الطبعات المتأخرة من كتابهِ.