لضغطها بالقدم، فلما وصل "كونكوستادورس" إلى المكسيك وجدَ الأزاتقة لا يعرفون غير الفأس أداة لحرث الأرض حتى إذا ما استؤنس الحيوان وطُرقت المعادن أمكن استعمال أدوات أثقل، فكبرت الفأس حتى أصبحت محراثاً يضرب في الأرض أعمق مما كانت تضرب الفأس، فانكشفت بذلك خصوبة الأرض الدفينة، بحيث تغيرت سيرة الإنسان تغيراً كاملاً، فَزرعَ أنواعاً من النبات كانت تستعصي عليه من قبل، واستنبت أنواعاً أخرى، وأصلح الأنواع التي كان يزرعها قبل ذلك.
وأخيراً تعلم الإنسان عن الطبيعة فن التحوط للمستقبل، وفضيلة التبصر في العواقب (١) كما تعلم فكرة الزمن؛ فلما لاحظ الإنسان الطيور النقارة تخزن البندق في الشجر ولاحظ النحل تخزن العسل في الخلايا، أدرك- وربما جاء إدراكه هذا بعد ألوف من سنين قضاها في همجية لا تعرف للحيطة معنى- أدرك فكرة اختزان الطعام للمستقبل؛ وكشف عن بعض السبل التي تمكنه من حفظ اللحم، بتدخينها وتمليحها وتبريدها، وخير من ذلك في سبيل التقدم ما بناه لنفسه من أهراء للغلال تحفظها من المطر والرطوبة والحشرات واللصوص، فكان يحتفظ في تلك الأهراء بطعام يأكله في أشهر السنة العجاف؛ وهكذا تبين على مر الأيام أن الزراعة يمكن أن تكون مورداً للقوت أجود نوعاً وأثبت اطراداً من الصيد، فلما أن تحقق الإنسان من هذا، خطا إلى الأمام إحدى الخطوات الثلاث التي نقلته من الحيوانية إلى المدنية- وتلك الخطوات هي الكلام والزراعة والكتابة.
ولا يجوز لك أن تتصور الإنسان وقد قفز من الصيد إلى حرث الأرض بوثبة واحدة، فكثير من القبائل- مثل الهنود الأمريكيين- جمدوا في مرحلة
(١) تلاحظ العلاقة اللغوية بين الألفاظ الثلاثة التي معناها على التعاقب "حيطة للمستقبل" و "تدبير" و "تبصر" وهي بالإنجليزية Prudence و Providence و Prevision