إلى هذا ما ندجده فيها من تمحيص هو محك الإنسانية النهائي لمعرفة الحقيقة.
وإذا شئنا أن نفهم الإنياذة على حقيقتها ونقدرها التقدير الذي هي جديرة بهِ، كان علينا أن نتذكر في كل قسم من أقسامها أن فرجيل لم يكن يكتب رواية خيالية، بل كان يكتب لرومة كتاباً مقدساً؛ وليس ذلك لأنه يقدم لها شريعة دينية واضحة، فإن الآلهة الذين يسيرون الحوادث في تمثيليتهِ من وراء الستار لا يقلون خبثاً عن لآلهة هومر، وإن لم يكونوا قريبين من البشر الفكهين قرب هؤلاء؛ بل إنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن كل ما في القصة من شر وشقاء ليس منشؤه من فيها من رجال ونساء بل منشؤه الآلهة أنفسهم. وأكبر الظن أن فرجيل لم يكن يرى في أولئك الأرباب إلا أنهم أدوات لشعرهِ، ورموز للظروف الظالمة المستبدة، والحادثات المفاجئة التي تخل بسير العالم المنتظم الرتيب؛ وهو على العموم يتذبذب بين جوف الأرباب وبين القدر اللا شخصي، فهذا يسيطر على الكائنات تارة وذلك يسيطر عليها تارة أخرى. وآلهة القرية والحقل أحب إليهِ من آلهة أولمبس، فهو لا يترك فرصة تُتاح له إلا مجد الأولى ووصف طقوسها ومراسمها، وتمنى لو استطاع الناس أن يعودوا إلى ما كانوا عليهِ من حب الآباء، والوطن والآلهة، وهو الحب الذي كانت تغذيهِ العقيدة الريفية البدائية:"أسفي على تقوى الأقدمين وإيمانهم! " غير أنه لا يؤمن بالفكرة القديمة عن الجحيم خيث يحشر الموتى جميعاً الصالح منهم والطالح، بل تخالجه أفكار أرفية (١) فيثاغورية عن تجسيد الأرواح بعد الموت، وعن الحياة في الدار الآخرة، وهو يوضح إلى أقصى حد يستطيعه فكرة الثواب في الجنة والمطهر، والعقاب في الجحيم.
لكن الدين الحقيقي في الإنياذة هو دين الوطنية، وإلهها الأعظم هو رومة
(١) نسبة إلى أرفيوس وهو الشاعر الذي يقال عنه إنه كان يحرك الجماد بصوت مزماره. (المترجم)