للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخيل إلى الشاعر مرة أن الأمواج ستبتلع سفينتة، ولما أبصر تومي حزن إذ بقي على قيد الحياة واستسلم للحزن واليأس.

وكان في أثناء الرحلة قد شرع ينظم القصائد المعروفة لنا باسم الأحزان Tristia. فلما جاء المدينة واصل نظمها وبعث بها إلى زوجته وابنته وربيبته وأصدقائه. وأكبر الظن أن الروماني المرهف الحس قد بالغ في وصف أهوال موطنه الجديد حين عنه إنه: مكان قفر خالٍ من الأشجار لا ينبت فيهِ شيء وإن كان ضباب البحر الأسود عنه الشمس، وإن البرد يشتد فيهِ حتى يبقى ثلج الشتاء في بعض السنين طوال فصل الصيف، ويتجمد ماء البحر الأسود في فصل الشتاء المظلم الكئيب، كما يتجمد ماء نهر الدانوب حتى ليسهل أن يمر عليهِ البرابرة الضاربون حول المدينة على أهلها وهم خليط من الجيتا Getae حملة الخناجر واليونان المهجنين. ولما فكر في سماء رومة الصافية وحقول سلمو Sulmo الناضرة تحطم قلبه أسىً وحسرة، وسرى في شعرهِ- وكان لا يزال جميلاً في شكله ولفظه- شعور عميق قوي لم يسر فيه قبل.

وتتصف "الأحزان" هي والرسائل الشعرية التي كتبها لأصدقائه "من البحر الأسود Ex Ponto" بكل ما تتصف به أعماله العظيمة من سحر وجمال، فقد بقي له في منفاه كل ما كان له من ألفاظ سهلة يبعث بها السرور في القلوب حتى وهو في المدرسة، ووصف للمناظر تكتسب وضوحها من نفاذ بصره ومن خياله، وقدرة على تصوير الأسخاص وبث الحياة فيهم بما أوتي من دقة ومهارة سيكلوجية، وعبارات موجزة مليئة بالتجربة والتفكير، ورقة في الحوار، ويسر وسهولة في الأوزان، كل هذه الخصائص قد بقيت له في منفاه وخالطها جِدٌّ ووقار ورقة، كان افتقار قصائده الأولى إليها مما جعلها غير جديرة بالرجال. وكان ينقصه في جميع مراحل حياته قوة الخلق؛ وكما أنه قد أفسد