يصدق عليه أيام شبابه، ولكنه اشتهر بعطفه الدائم على زوجته. والحق أنه لم يقرر في حياته أيهما إليه الفلسفة أو السلطة، الحكمة أو السعادة؛ ولم يقنع في يوم من الأيام بتعارض الفلسفة مع السلطة، أو الحكمة مع السعادة؛ وكان يعترف بأنه حكيم جد ناقص، ومن أقواله في هذا:"أني لا أمتدح الحياة التي أحياها بل االحياة االتي يجب أن أحياها، وهي الحياة التي أحبو إليها حبواً، وهي بعيدة عني كل البعد"(٢١)، وأينا لا يصدق عليه هذا الوصف؟ وإذا لم يكن مخلصاً في قوله إن "الرحمة لا تزين أحداً من الناس بقدر ما تزين الملك أو الزعيم"(٢٢)، فلا أقل من أنه قد وصفق هذه العاطفة وصفاً لا يقل جمالاً عن وصف بورشيا Portia لها (١). وقد ندد بمعارك المجتلدات التي كانت تنتهي بقتل المصارعين (٢٤)، وكان من أثر ذلك أن حرمها نيرون، وخفف من حدة النقد في أيامه بما يسميه تاستس:"كياسته في تلقين الحكمة"(٢٥)، ولم يكن في حياته يتطلب الكمال، كما لم يكن يمارسه عملياً.
ولقد سبق القول بأنه خكم الإمبراطور حكماً صالحاً وأنه أساء إلى سمعته بالتغاضي عن شر ما ارتكبه نيرون من الجرائم، و "السماح بارتكاب الكثير من الشر حتى يكون في مقدوره أن يفعل القليل من الخير"(٢٧). وكان يحس بما في منصبه الرسمي من ذلة ومهانة، ويتوق إلى التحرر من عبوديته، ووصف قصر الإمبراطور بأنه "سجن يشقى فيه العبيد". وكان يتمنى أن لو قضى حياته كلها في دراسة الحكمة، وتجنب دياجير السلطان. وكان يسره أن يتخلى من حين إلى حين عم مشاغله السياسية، وأن يستمع وهو في سن الستين إلى محاضرات متروناكس Metronax في الفلسفة كما يستمع إليها الصبي الحريص على الإفادة منها. وطلب في عام ٢٢ - وكان وقتئذ في السادسة والستين من عمره-أن يؤذن له باعتزال منصبه في القصر، وكان وقتئذ أقل شأناً من منصبه الأول،
(١) يشير المؤلف إلى وصف بورشيا البليغ للرحمة في رواية تاجر البندقية لشكسبير. (المترجم)