ولكن نيرون لم يجبه إلى طلبه. ولما طلب نيرون إلى جميع من في الإمبراطورية أن يكتتبوا في إعادة بناء رومة بعد الحريق العظيم الذي دمرها في عام ٦٤، تبرع هو بالجزء الأكبر من ثروته لهذا الغرض. واستطاع فيما بعد أن ينسحب شيئاً فشيئاً من بلاط الإمبراطور، وأن يقضي جزءاً متزايداً من وقته في بيوته في كمبانيا، لعله يستطيع بعزلته الشبيهة بعزلة النساك أن يفر من الإمبراطور ومن جواسيسه. وظل وقتاً ما لا يطعم إلا التفاح البري ولا يشرب إلا الماء الجاري خشية أن يدس له السم في الطعام.
وفي هذا الجو المليء بالرعب والفزع دوّن بين عامي ٦٣، ٦٥ دراساته في التاريخ الطبيعي Questiones Naturales كما كتب ألطف كتاباته كلها وهي رسائله الأخلاقية Epistulae Morales. وهذه الرسائل احاديث عارضة شخصية موجهة إلى صديقه لوسليوس وإلى صقلية المثري، الشاعر، الفيلسوف والأبيقوري الصريح. وقل أن يجد الإنسان في الأدب الروماني كتباً تبعث على السرور خيراً من هذه المحأولات الطريفة لتكييف الرواقية حسب حاجات الرجل الواسع الثراء. وتعد هذه الرسائل بداية المقالة الخالية من التكلف والصنعة التي أمست فيما بعد الوسيلة التي لجأ إليها أفلوطرخس، ولوسشيان، ومنتاني، وفلتير، وروسو، وبيكن، وأدسن واستيل للتعبير عن آرائهم. وإن القارئ ليشعر وهو يقرأ هذه الرسائل بأنه على اتصال بروماني مستنير، رحيم، متسامح، سما إلى الذروة وتعمق إلى أبعد حد في الأدب، والسياسة، والفلسفة، ويحسن كأن زينون يتحدث فيها برقة أبيقور وتسامحه وبسحر أفلاطون. ويعتذر سنكا للوسليوس عن أسلوبه المهلهل الذي ر يبدو فيه كبير أثر للعناية (وهو مع ذلك أسلوب لاتيني رائع الحسن)؛ ويقول في اعتذاره هذا:"وأحب أن تكون رسائلي إليك هي عين حديثي، إذا ما جلسنا أو سرنا معاً"(٣٠). ويضيف إلى ذلك قوله:
"لست أكتب هذا لجمهرة الناس، بل أكتبه إليك، فحسبي وحسبك