تهيمن على كل شيء، "تحب الصالحين من الناس"(٣٣)، وتستجيب إلى دعواتهم، وتعينهم بلطفها الإلهي (٣٤). ثم تراه في فقرات أخرى يقول إن الله هو العلة الأولى في سلسلة متصلة من الحلقات من العلل والمعلومات، وإن القوة النهائية هي القدر وهو علة لا تزد ولا تنقص، تصرف شؤون البشر والآلهة على السواء … تقود الطائعين وتجر الغاضبين" (٣٦). وهذا التردد نفسه يطمس فكرته عن النفس البشرية، فهي عنده نسمة مادية رقيقة تبعث الحياة في الجسد ولكنها أيضاً "إله يسكن" في الهيكل البشري "كما يسكن الضيف" عند مضيفه (٣٧). وهو يتحدث حديث المرتجي عن حياة بعد الموت، تكمل فيها المعرفة والفضيلة (٣٨)؛ ويسمي الفساد الخلقي كما يسميه من قبل "حلماً جميلاً" (٣٩). وحقيقة الأمر أن سنكا لم يفكر في هذه المسائل تفكيراً يصل به إلى نتيجة متسقة (أو عامة)، بل هو يتحدث عنها حديث السياسي المذبذب الذي يوافق الناس جميعاً. ذلك أنه عمل بدروس أبيه الخطابية فنجح فيما كان يبغيه نجاحاً فوق ما يجب، واستطاع أن يعبر عن جميع الآراء المتناقضة بعبارات بليغة لا يستطيع القارئ أن يقأوم أثرها في نفسه.
وهذا التردد عينه يفسد فلسفته ويجملها معاً، فهو مسرف في رواقيته إلى حد يجعل فلسفته غير عملية، وهو لين إلى حد لا يستطيع معه أن يكون رواقياً حقيقياً؛ وهو يرى م حوله فساداً خلقياً ينهك الجسم ويزري بالنفس، ولا يرضى هذا أو ذاك؛ ويرى أن الشره والترف قد قضيا على الطمأنينة والصحة، وأن كل ما أفاده الإنسان من القوة أن صار وحشاً أقدر على الأذى من سائر الوحوش فهل من سبيل إلى نجاة الإنسان من هذا الاضطراب الشائن المذل؟
ولقد قرأت اليوم قول أبيقور: "إذا شئت أن تستمتع بالحرية الحقة، وجب عليك أن تكون عبداً للفلسفة، ذلك أن الرجل الذي يخضع لها يتحرر لساعته … إن الجسم إذا شفي من مرضه مرة كثيراً ما ينتابه المرض مرة أخرى …