للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالسياط، وجاء آخر فمثل جوبتر وهو يوصي بوصيته استعداداً للموت (١٢٤). ولاحظ جوفنال ما لاحظه أفلاطون قبل عهده بخمسة قرون، وما نلاحظه نحن بعده بثمانية عشر قرناً، أن خوف إله رقيب مطلع على السرائر لم يعد له من القوة ما يستطيع به أن يكشف الحنث على الإيمان (١٢٥). وحتى شواهد القبور نفسها تقرأ عليها ما يدل على ازدياد التشكك في الدين وعلى الانغماس الصريح في الشهوات. فقد كتبت على واحد منها هذه العبارة: "لم أكن، لقد كنت، ولست بكائن، ولا أبالي". وكتب على شاهد آخر: "لم أكن قد وجدت، لست موجوداً، لست أدري"، وعلى شاهد ثالث: "لم يكن لي إلا ما أكلت وشربت؛ لقد تمتعت بحياتي" (١٢٦). وكتب على شاهد آخر: "لا أومن بشيء وراء القبر". ويؤكد شاهده غير أن "ليس ثمة جحيم ولا كارون، ولا سربس Cerebus". وكتبت نفس قلقة كدرة: "لا حاجة لي الآن بأن أخشى الجوع، ولا حاجة لي بأن أؤدي الريع، ولقد تحررت من وجع المفاصل على الأقل". وكتب شخص نكد من أتباع لكريشيوس عن جثته المدفونة يقول: إن "العناصر التي تكونت منها تعود مرة أخرى إلى أصولها، إن الحياة عارية تعار للإنسان، وليس في مقدوره أن يحتفظ بها إلى أبد الدهر، وهو إذا مات يرد ما عليه من دين إلى الطبيعة" (١٢٧).

لكن الشك مهما يكن فيه من إخلاص لا يمكن أن يحل محل الإيمان، ولم يجد ذلك المجتمع بين ملذاته كلها سعادة ما، بل سئم ما فيه من تنعم، واستنفد قواه فيما ساده من دعارة، وظل الفقراء والأغنياء على السواء معرضين للألم والحزن والموت، ولم تستطع الفلسفة بجميع أنواعها، وخاصة تلك العقيدة الباردة السامية عقيدة الرواقية، أن تهب الرجل العادي إيماناً يخفف عنه شعوره بفقره، ويشجعه على تهذيب خلقه، ويواسيه في أحزانه، ويبعث الأمل في قلبه. لقد كان الدين القديم يؤدي لوظيفة الأولى من هذه الوظائف الثلاث، وعجز عن أداء الوظيفتين الأخريين. ذلك أن الناس كانوا يحتاجون إلى وحي يوحي إليهم،