الأعمال" (٦). ألا ما أعجب هذا الرأي الذي يجعل التاريخ يوم حساب، ويجعل المؤرخ إلهاً يحاسب الناس على أعمالهم. وإذا ما فهم التاريخ هذا الفهم استحال إلى مواعظ- أعني دروساً في الأخلاق وسيلتها ضرب أشد الأمثال رهبة- وأصبح كما يفترض تاستس خاضعاً لعلم البيان. إن من السهل على من يغضب أن يكون فصيحاً بليغاً، ولكن ليس من السهل عليه أن يكون عادلاً نزيهاً؛ ولهذا وجب ألا يقدم العالم الأخلاقي على كتابة التاريخ. ولقد كان تاستس قريب العهد بالمستبدين يحتفظ في ذاكرته بصورتهم، وهذا في حد ذاته يحول بينه وبين نظره إليهم في هدوء. ومن أجل هذا لم ير من أعمال أغسطس إلا قضاءه على الحرية، وظن أن كل ما كان للرومان من عبقرية قد قضى عليه يوم أكتيوم (٧). ويبدو أنه لم يخطر بباله أن يخفف من حدة التهم التي يوجهها إلى الأباطرة، بذكر براعتهم الإدارية، ورخاء الولايات في عهد أولئك الطغاة الجبابرة. وما من أحد يقرأ تواريخه ثم يخطر بباله أن رومة كانت إمبراطورية كما كانت مدينة. وليس ببعيد أن "الكتب" التي ضاعت، كانت تلقي نظرة على الولايات وعالمها، أما الكتب الباقية فهي تجعل تاستس مرشداً مقرراً، لا يكذب قط ولكنه لا يسجل الحقيقة مطلقاً (١). وكثيراً ما يقتبس من المصادر التي يرجع إليها، سواء كانت هذه المصادر كتب تاريخ أو خطباً، أو رسائل، أو أوامر يومية، أو قرارات مجلس الشيوخ، أو أخبار الأسر القديمة؛ وتراه أحياناً يبحثها بحث الناقد الخبير. غير أنه لم يسمع في معظم الأحوال إلا قصص النبلاء المضطهدين، وهو لا يتصور قط أن حوادث إعدام الشيوخ وإغتيال الأباطرة لم تكن إلا أحداثاً عارضة في صراع طويل بين الملوك الفاسدين، القساة، الكفاة القادرين، وبين
(١) يذكرنا هذا يقول مكولي "إن بعض المؤرخين يحدثون كل ما للكذب الشنيع من أثر وإن كانوا لا يذكرون غير الحقائق".) المترجم (