والتخريف، واضمحل فيها كل ما عدا هذين من مقومات الحياة القومية، ووضعت الرقى لتصبغ كل قرار يصدره الكهنة بالصبغة المقدسة الإلهية. وامتص الآلهة كل ما في مصر من مصادر الحياة حتى نضب معينها في الوقت الذي كان فيه الغزاة الأجانب يعدون العدة للانقضاض على كل هذه الثروة المتجمعة.
وثار نقع الفتنة في جميع أطراف البلاد. وكان من أهم موارد مصر موقعها الهام على الطريق الرئيسي لتجارة البحر الأبيض المتوسط، وكانت معادنها وثرواتها قد جعلت لها السيادة على بلاد لوبيا في الغرب وعلى بلاد فينيقية وسوريا وفلسطين في الشمال والشرق. لكن أمماً جديدة في بلاد أشور وبابل وفارس كانت آنئذ تتمرد وتشتد ويقوى سلطانها في الطرف الآخر من طرفي هذا الطريق التجاري، وكانت تدعم قوتها بالمخترعات والمغامرات وتجرؤ على منافسة المصريين الأتقياء الراضين عن أنفسهم في ميادين التجارة والصناعة. وكان الفينيقيون وقتئذ يتمون صنع السفائن ذات الثلاثة صفوف من المجاديف لكي يصلوا بها إلى ما يبغون من كمال، وأخذوا بفضل هذه السفائن ينتزعون من مصر السيطرة على البحر شيئاً فشيئاً. وكان الدوريون والآخيون قد استولوا على كريت وجزائر بحر إيجه (حوالي ١٤٠٠ ق. م) وكانوا ينشئون لهم إمبراطورية تجارية. وأخذت التجارة يقل سيرها شيئاً فشيئاً في قوافل بطيئة في طرق الشرق الأدنى الجبلية والصحراوية المعرضة لهجمات اللصوص، وبدأت تنقل بوسيلة أقل من هذه كلفة على ظهر سفن تخترق البحر الأسود وبحر إيجه إلى طروادة وكريت وبلاد اليونان، وأخيراً إلى قرطاجنة وإيطاليا وأسبانيا. وعلا نجم الأمم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية وازدهرت، أما الأمم المقيمة على شواطئه الجنوبية فضعفت واضمحلت. وفقدت مصر تجارتها وذهبها وسلطانها وفنونها، ثم فقدت آخر الأمر كبرياءها نفسه، وزحفت على أرضها الأمم المنافسة لها واحدة بعد واحدة وعدت عليها واجتاحت أرضها وخربتها.