يتركون دور التمثيل، ويهرعون إلى سماعها مع أنه كان يلقيها باللغة اليونانية (١٩). وتلك خطة تكاد تؤذن بموت الفلسفة، فقد طغى عليها سيل البيان، وغادرها التفكير حين تعلّمت الكلام.
وكان في الطرف الآخر جماعة الكلبيين. ولقد وصفناهم في غير هذا المكان وصفنا ثيابهم الممزقة، وشعرهم الأشعث، ولحيتهم الكثّة، وجعبتهم وعكازهم، ونزولهم بالحياة إلى أبسط الأمور، وإلى الفحش في بعض الأحيان. وكانوا يعيشون معيشة الرهبان المتسولين، في ظل نظام كهنوتي فيه مبتدئون ورؤساء أعلون (٣٠)، لا يتزوجون ولا يعملون، ويسخرون من تقاليد الحضارة ومظاهرها المصطنعة، ويشهّرون بالحكومات كلها على اختلاف أنواعها، ويرون أنها بأجمعها عديمة النفع، لا تعدو أن تكون تلصصاً سافراً، ويستهزئون بالنبوءات، و "الطقوس الخفيّة"، والأرباب. وكان الناس كلّهم يهجونهم، وخاصة لوشيان، فقد صبّ عليهم أقذع هجاء، ولكن لوشيان نفسه كان يعجب بدموناكس Demonax، الفيلسوف الكلبي المثقّف الذي خرج عن كل ثروته ليعيش في فقر فلسفي، والذي وهب حياته الطويلة التي دامت قرناً كاملاً (٥٠ - ١٥٠ م) لمساعدة غيره من الناس، وإزالة الخلاف بين المتباغضين والمُدن المتعادية، حتى لقد عظّمته أثينة رغم أنها كانت تسخر من كل شيء. ولما اتهم أمام محكمة أثينة بأنه يرفض تقريب القرابين للآلهة، برأته المحكمة حين قال إن الآلهة لا حاجة لها بالقرابين، وإن الدين لَيَنحصر في الحنو على جميع الخلق، وكان هذا هو كل ما دافع به عن نفسه.
ولما أن تورّطت الجمعية الأثينية في نزاع حزبي كان ظهوره فيها كافياً لفض النزاع، ولم يكن منه إلا أن غادرها دون أن ينطق بكلمة واحدة وكان من عادته في شيخوخته أن يدخل أي بيت من غير دعوة، ويُطعَم فيه وينام. وكان كل بيت في أثينة يسعى لأن ينال هذا الشرف (٢١). ويتحدّث لوشيان بعطف