واليوم يوجد مكان يسمى مصر، ولكن المصريين ليسوا سادته؛ فلقد حطمتهم الفتوح من زمن بعيد، واندمجوا عن طريق اللغة والزواج في الفاتحين العرب، وأضحت مدنهم لا تعرف إلا المسلمين والإنجليز، وأقدام السياح المتعبين، الذين يأتون من أقاصي الأرض ليروا أهرامها فلا يجدونها إلا أكواماً من الحجارة، ولربما رجعت إلى مصر عظمتها إذا ما أثرت آسية مرة أخرى فأصبحت مصر مركز التجارة العالمية ومستودعها. ولكن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بما سيكون وهو واثق مما يتنبأ به، وكل ما نعلمه علم اليقين أن آثار مصر القديمة قد خربت وتهدمت؛ فالسائح أينما سار يجد خربات ضخمة، وآثاراً وقبوراً تذكره بجهود عظيمة جبارة، ومن حولها قفر ودمار، ونضوب للدم القديم. ويحيط بهذا كله رمال سافية لا تنفك الرياح الحارة تحملها من كل جانب، كأنها قد اعتزمت أن تغطي بها آخر الأمر كل شيء (١).
لكن هذه الرمال لم تخرب من مصر القديمة إلا الجسد، أما روحها فما تزال باقية فيما ورثه الجنس البشري من علم ومن ذكريات مجيدة.
وحسبنا أن نذكر من معالم حضارتها نهوضها بالزراعة والتعدين والصناعة والهندسة العلمية، وأنها في أغلب الظن هي التي اخترعت الزجاج، ونسيج
(١) آثرنا أن ننقل هذا الجزء كما كتبه المؤلف حرصاً منا على الأمانة في النقل وإن كنا لا نوافقه على الكثير منه، ورغبة في أن يعرف المصريون كل ما يقال عنهم حقاً كان ذلك أو باطلاً. وقل أن يوجد في بلاد العالم شعب إلا وقد امتزج دمه بدم غيره من الشعوب. فمسلمو مصر وأقباطها وإن اختلفوا في الدين يؤلفون معا أمة متجانسة ذات عادات وتقاليد وأماني واحدة. ومن الخطأ أن يقال أن مدنهم لا تعرف إلا المسلمين والإنجليز. إنها تضم أبناء مصر من مسلمين وأقباط، أما الإنجليز فإن الذي نعرفه عنهم أنهم احتلوا البلاد نصف قرن ولكنهم ظلوا فيها قوماً أجانب غرباء عن أهلها حتى أخرجتهم من أرضها.