في "كارون" منظر البشر، كما تراهم عين فوق عين الآدميين من قمة سماوية عالية، صورة حالكة السواد: صورة خلائق يفلحون الارض، ويكدحون، ويتنازعون، ويتقاضون في المحاكم، وُرابون، ويَغشّون ويُغشّون. ويجرون وراء الذهب أو اللذة. وفوق رؤوسهم سحابة من الرمال والمخاوف، والحمق، والكره، ومن فوق هذه كلها تعتزل الأقدار خيط الحياة لكل ذرة بشرية؛ فإنسان يرتفع من بين جمهرة الناس ثم يسقط إلى الحضيض، وكل إنسان يسحبه بدوره رسول من رسل الموت. ويبصر كارون جيشين يقتتلان في أرض البلوبونيز، فيُعلّق على قتالهم بقوله:"ما أشدّ حمق هؤلاء! إن كلاً منهم لا يعرف أنه وإن كسب البلوبونيز وحده لن يكون له آخر الأمر إلا قدم واحدة من الأرض"(٦٦). ولوشيان لا يحابي أحداً شأنه في هذا شأن الطبيعة نفسها، فهو يهجو الأغنياء لشرههم، والفقراء لحسدهم، والفلاسفة لشراكهم، والآلهة لعدم وجودهم. ويختم حديثه في آخر الأمر بما يختم به فلتير حديثه وهو أنه ينبغي للإنسان أن يزرع حديقته. فمنبس Menippus يجد تيرسياس Teiresias في الدار السفلى ويسأله: ما خير أنواع الحياة؟ فيجيبه النبي الشيخ بقوله:
إن حياة الرجل العادي خير أنواع الحياة، ومن اختارها كان أكثر الناس فطنة؛ وإياك وسُخف المجادلات فيما وراء الطبيعة والبحث في أصول الأشياء وغاياتها؛ ولا تحسبن هذا المنطق كلّه إلا هراء في هراء، ولا تسعَ إلا لغاية واحدة وهي كيف تعمل ما تجده يدك لتعمله؛ وسِر في طريقك دون أن تنفعل قط وعلى فمك ابتسامة على الدوام (٦٧).
وقصارى القول أن التفكير اليوناني في القرنين الأولين من التاريخ الميلادي تغطي عليه النزعة الدينية على الرغم من لوشيان وآرائه. لقد خسر الناس قبل ذلك العهد إيمانهم وعمدوا إلى المنطق؛ أما في الوقت الذي نتحدّث عنه فقد كانوا يخسرون المنطق ويعودون سراعاً إلى الإيمان. ذلك أن الفلسفة اليونانية