ق. م، أو أن يتوهم أن القوانين التي تمهد لها استمدت أصولها من قوانين سومرية مضى عليها ستة آلاف عام. وهذا الأصل القديم مضافاً إلى الظروف التي كانت تسود بابل وقتئذ هي التي جعلت قانون حمورابي شريعة مركبة غير متجانسة. فهي تفتتح بتحية الآلهة، ولكنها لا تحفل بها بعدئذ في ذلك التشريع الدستوري البعيد كل البعد عن الصبغة الدينية. وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقسى العقوبات وأشدها وحشية، وتضع قانون النفس بالنفس والتحكيم الإلهي (١) إلى جانب الإجراءات القضائية المحكمة والعمل الحصيف على الحد من استبداد الأزواج بزوجاتهم. على أن هذه القوانين البالغة عدتها ٢٨٥ قانوناً، والتي رتبت ترتيباً يكاد يكون هو الترتيب العلمي الحديث، فقسمت إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة، وبالأملاك العقارية، وبالتجارة، والصناعة، وبالأسرة، وبالأضرار الجسمية، وبالعمل؛ نقول إن هذه القوانين تكون في مجموعها شريعة أكثر رقياً وأكثر تمديناً من شرعية أشور التي وضعت بعد أكثر من ألف عام من ذلك الوقت، وهي من وجوه عدة " لا تقل رقياً عن شريعة أية دولة أوربية حديثة "(٥)؛ وقلّ أن يجد الإنسان في تاريخ الشرائع كلها ألفاظاً أرق وأجمل من الألفاظ التي يختتم بها البابلي العظيم شريعته:
"إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة وحكومة طاهرة صالحة … أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد … وبحكمتي قيدتهم، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة … فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة، ليقرأ النقش الذي على أثري، وليلق
(١) قانون النفس بالنفس معروف، وقد ورد مفصلا في التوراة، وأشارت إليه الآية القرآنية الكريمة: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" الخ، أما التحكيم الإلهي فقد كان من العادات الشائعة عند بعض الأمم وهو إثبات الجريمة على المتهم أو نفيها عنه بإلقائه في الماء أو النار لينجو منهما إن كان بريئا فإن لم ينج فهو مذنب. (المترجم)