جوفاء ليس فيها كثير من المعاني، ويُؤخذ عليها ما فيها من إطناب، وتشبيهات خدّاعة، وحيَل بيانية، فهي تمط نصف المعنى حتى تملأ به مائة صفحة؛ فلا عجب بعدئذ إذا صاح أحد المستمعين بعد أن سئم هذا الطول:"إنك قد جعلت الشمس تغرب من طول أسئلتك التي لا آخر لها"(٧٨). ولكن الرجل كان فصيح اللسان ساحر البيان، ولولا ذلك لصعب عليه أن يكون أشهر خطباء القرن الذي عاش فيه، ولما كانت الحروب تقف لكي يستمع الناس إلى خطبه وقد قال له تراجان في يوم من الأيام قولاً صادقاً صريحاً:"لَستُ أفهم ما تقول ولكنني أحبك بقدر حبي لنفسي"(٧٩). وكان البرابرة الضاربون على ضفتي البورسثنيز Borysthenes (الدنيبر) يستمعون إليه في ابتهاج لا يقل عن ابتهاج اليونان وهو مجتمعون في أولمبيا، أو ابتهاج أهل الإسكندرية المعروفين بسرعة الانفعال. وحدث أن جيشاً أوشك أن يتمرّد على نيرفا، فهدأت ثورته بعد أن استمع إلى خطبة ارتجلها الخطيب الطريد النصف العاري.
وأكبر الظن أن الذي أغرى الناس بالالتفاف حوله لم يكن أسلوبه اليوناني الأنكي الجميل بل كان هو جرأته في التشهير، ويكاد أن يكون هو الخطيب الوحيد في العهود الوثنية القديمة الذي ندد بالدعارة؛ وما أقل كتّاب زمانه الذين هاجموا نظام الاسترقاق بمثل ما هاجمه هو من القوة والصراحة. (بيد انه غضب بعض الغضب حين وجد أن عبيده فرّوا منه)(٨٠). وكانت خطبته في أهل الإسكندرية تنديداً عنيفاً بترفهم، وتخريفهم، ورذائلهم. وقد وقف يوماً في اليوم Ilium وألقى خطبة قال فيها إن طروادة لم توجد قط، وإن "هومر كان أجرأ كاذب في التاريخ"؛ ثم وقف يوماً آخر في قلب روما وأخذ يذكر فضائل الريف على المُدن، وصوّر فقر الريف تصويراً مؤثراً في أسلوب قصصي واضح جذّاب، وأنذر مستمعيه أن الناس أخذوا يهملون الأرض، وأن