تحل، ولا يبقى أثر لتلك النظم التي تنشأ من شره الإنسان وعنفه، وما تستتبعه من الحاجة إلى القوانين. وهذا إذا تم كان أعمق الثورات، التي إذا قيست إليها الثورات جميعاً كانت تغييراً موقوتاً يضع طبقة مكان طبقة، وتظل الطبقة الغالبة تستغل الناس كما كانت تستغلهم الطبقة المغلوبة. وبهذا المعنى كان المسيح أعظم الثائرين؛ أي محدثي الانقلابات في تاريخ العالم.
وليست أهم أعماله أنه يبشر بدولة جديدة، بل أهمها أنه يضع الخطوط الرئيسية لمبادئ أخلاقية مثالية. وكانت تلك المبادئ الأخلاقية هي التي تنبأ بقيامها عندما يحل موعد ملكوت الله (٨٨)، والتي كان يقصد بها أن يكون الناس خليقين بالدخول في هذا الملكوت. ومن ثم كانت تلك "التطويبات" وما فيها من تمجيد للوداعة، والفقر والرقة، والسلام لم يسبق له مثيل، وكانت نصيحته أن يدير الإنسان خده الثاني، وأن يكون الناس كصغار الأطفال "لا مثلاً عليا للفضيلة! " وعدم اهتمامه بالشئون الاقتصادية، وبالفقر، وبشئون الحكم، وتفضيله العزوبة عن الزواج، وأمره الناس بأن يتخلوا عن جميع الروابط العائلية لم تكن هذه قواعد للحياة العادية، بل كانت نظاماً يكاد يماثل نظام الأديرة يهيّئ الرجال والنساء لأن يختارهم الله لمملكة مرتقبة، لن تكون فيها شريعة، ولا زواج، ولا علاقات جنسية، ولا فقر، ولا حر، وقد أثنى يسوع على الذين تركوا "بيتاً، أو والدين، أو أخوة، أو امرأة، وأولاداً" بل أثنى أيضاً على الذين "خصّوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات"(٨٩). وما من شك في أن هذه التعاليم قد وضعت لتسير عليها أقلية دينية ورعة، ولم توضع لمجتمع دائم، لقد كانت هذه مبادئ أخلاقية، ضيقة في أغراضها، ولكنها عامة في مجالها، لأنها تطبق فكرة الاخوة والقاعدة الذهبية على الأجانب والأعداء كما تطبقها على الجيران والأصدقاء، وكانت تتطلع إلى زمن لا يعبد في الناس الله في الهياكل بل يعبدونه "بالروح، والصدق" وبكل عمل يعملونه لا بالألفاظ الزائلة.