لكن الكنيسة ازدهرت في أفريقية على الرغم من هذه الأفعال، فقد قام فيها أساقفة مخلصون من طراز سبريان Cyprian رفعوا أربشية قرطاجنة إلى درجة من الغنى والنفوذ لا تقل عما بلغته روما. أما في مصر فقد كان نماء الكنيسة أبطأ منه في قرطاجنة، وقد اختفت مراحله الأولى من التاريخ فأصبحنا لا نعرف عنها شيئاً. غير أننا نسمع فجأة في أواخر القرن الثاني عن مدرسة لتعليم أصول الدين بالسؤال والجواب قائمة في مدينة الإسكندرية قرنت المسيحية بالفلسفة اليونانية، وأخرج للعالم أبوين من أعظم آباء الكنيسة هما كلمنت وأرجن. وكان كلاهما واسع الاطلاع على الآداب الوثنية، محباً لها على طريقته الخاصة. ولو أن الروح التي كانت تغمرهما سادت في ذلك الورق لما كان لانفصال الثقافة القديمة عن المسيحية ما كان له من أثر مُتلف شديد.
ولما بلغ أرجينيز ادمنتيوس Origenes Adamantius السابعة عشرة من عمره (٢٠٢) قُبض على والده بتهمة أنه مسيحي، وحُكم عليه بالإعدام. وأراد ابنه أن يشاركه في السجن وفي الاستشهاد، ولم تستطع أمه أن تمنعه من ذلك إلا بإخفاء ملابسه كلها، فأخذ يبعث إلى أبيه رسائل يشجعه فيها على احتمال مصيره؛ وقد جاء في إحدى هذه الرسائل:"إحذر أن ترجع عن آرائك من أجلنا"(٦٠). وأُعدم الوالد ووقع عبء كفالة الأم والأطفال الصغار على الشاب. وبعث ما شاهده من استشهاد كثيرين من المسيحيين في نفس أرجن مزيداً من التقى والإيمان، فعمد إلى حياة الزهد والتقشف، وأكثر من الصوم، وأقلل من ساعات النوم، وافترش الأرض، ومشى حافياً، وعرض نفسه للبرد والعري، وأخيراً عمد إلى خصي نفسه (١) إطاعة للآية الثانية عشرة من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل متّى بعد أن تزمّت في تفسيرها أشد التزمّت. وفي عام ٢٠٣ خلف كلمنت في رياسة
(١) يقول جبن: ((وإذ كان من عادة أرجن أن يُفسّر الكتاب المقدس تفسيراً مجازياً فإن مما يؤسف له في رأينا أنه في هذه الحالة وحدها اتبع المعنى الحرفي لتلك الآية)) (٦١).