وشعائرها، وكانت الوطنية هي الذروة التي تنتهي عندها مبادئه الأخلاقية العليا. أما المسيحي فكان ينظر إلى دينه على أنه شيء منفصل عن المجتمع السياسي، وأنه أسمى من هذا المجتمع مقاماً، وكان يدين أعظم الولاء للمسيح لا لقيصر، وقد وضع ترتليان المبدأ الثوري بأن الإنسان غير ملزم بأن يطيع قانوناً يعتقد أنه ظالم (٤)؛ وكان المسيحي يعظم أسقفه، بل يعظم قسيسه، أكثر من تعظيمه الحاكم الروماني، ويعرض ما يقع بينه وبين زملائه المسيحيين من مشاكل قانونية على رؤساء الكنيسة لا على موظفي الدولة (٥). وكان اعتزال المسيحي للشئون الدنيوية يبدو للوثني كأنه هروب من الواجبات المدنية وضعف للروح القومي والإرادة القومية. وأشار ترتليان على المسيحيين بأن يرفضوا الخدمة العسكرية؛ وعمل عدد كبير منهم بنصيحته كما يدل على ذلك نداء سلسس لهم بأن يضعوا حداً لهذا الرفض، ورد أرجن عليه بأن المسيحيين سيدعون للإمبراطورية وإن أبوا أن يحاربوا من أجلها (٦)، وكان زعماء المسيحيين يحرضونهم على أن يتجنبوا غير المسيحيين، وأن يبتعدوا عن الألعاب الهمجية التي يقيمونها في أعيادهم، وألا يغشوا دور تمثيلهم لأنها مباحة للفجور (٧)، وحرم على المسيحي أن يتزوج بغير مسيحية، وعلى المسيحية أن تتزوج بغير مسيحي، واتهم الوثنيون العبد المسيحيين بأنهم يبذرون بذور الشقاق في الأُسر بتحريضهم أبناء أسيادهم وزوجاتهم على اعتناق الدين المسيحي؛ واتهم الدين المسيحي بأنه يعمل لتشتيت شمل الأُسر وخراب البيوت (٨).
على أن معارضة الدين الجديد قد جاءت من قبل الشعب أكثر مما جاءت من قبل الدولة. ذلك أن الحكام كانوا في كثير من الأحيان رجالاً مثقفين متسامحين، ولكن جمهور السكان الوثنيين قد ساءهم عزلة المسيحيين، وتعاليمهم، وثقتهم بأنفسهم، وأهابوا بحكامهم أن يعاقبوا أولئك الملحدين الذين يهينون الآلهة. ويشير ترتليان إلى "الكراهية العامة التي يحسّون بها نحونا"(٩).