الامتناع عن تولي المناصب العامة أو أداء الخدمة العسكرية، وكان المبدأ الأخلاقي الذي يدعو إليه هو مبدأ السلام وعدم المقاومة، حين كان بقاء الإمبراطوريّة يتطلب تقوية الروح الحربية، وبهذا كله كان انتصار المسيح إيذاناً بموت روما.
ولا يخلو هذا الاتهام القاسي من بعض الحقيقة؛ فقد كان للمسيحية، على الرغم منها، نصيب في فوضى العقائد التي ساعدت على إيجاد ذلك الخليط من العادات التي كان لها نصيب في انهيار روما. ولكن نمو المسيحية وانتشارها كانا نتيجة لضعف روما أكثر مما كانا سبباً في هذا الضعف. ذلك أن تحطم قواعد الدين القديم قد بدأ قبل ظهور المسيح بزمن طويل؛ وقد وجه إليه إينيوس Ennius ولكريشيوس Lucretius هجمات أشد عنفاً من كل ما وجهه إليه أي مؤلف وثني بعدهما. أما الانحلال الخلقي فقد بدأ من وقت أن فتح الرومان بلاد اليونان، وبلغ أوجه في عهد نيرون، ثم صلحت أخلاق الرومان بعدئذ، وكان أثر المسيحية في الحياة الرومانية من الناحية الخلقية أثراً طيباً بوجه عام، وبناء على هذا نقول إن المسيحية قد نمت هذا النماء السريع لأن روما كانت وقتئذ في دور الاحتضار، فالناس لم يفقدوا إيمانهم بالدولة لأن المسيحية أبعدت عواطفهم عنها، بل فقدوه لأن الدولة كانت تنصر الثروة على الفقر، وتحارب لتستولي على العبيد، وتفرض الضرائب على الكدّح لتعين على الترف، ولأنها عجزت عن حماية الشعب من المجاعات؛ والأوبئة، والغزو الأجنبي، والفقر المتقع؛ فهل يلام الناس بعد ذلك إذا تحولوا عن قيصر الذي يدعو إلى الحرب إلى المسيح الداعي إلى السلم، ومن الوحشية التي لا يكاد يصدقها العقل إلى الإحسان الذي لم يسبق له مثيل، ومن حياة خالية من الأمل والكرامة إلى دين يواسيهم في فقرهم ويكرم إنسانيتهم؟ ألا إن نصيب المسيحية في القضاء على الدولة الرومانية لم يكن أكثر من نصيب غزو البرابرة