ولياليه الطوال التي قضاها ينقب في بطون الأسفار. وقد تفوق في كتاباته على ألوس جليوس Oulus Gellius في الوقت الذي كان يسطو عليه، ذلك بأنه صاغ المادة التي أخذها عنه في صورة حوار خيالي بين رجال حقيقيين هم بريثكستاتوس Proetextatus وسيماخوس Symmachus، وفلافيان، وسرفيوس وغيرهم ممن اجتمعوا ليحتفلوا بعيد الساترناليا بالخمر الطيب، والطعام الشهي، والنقاش العلمي. وألقيت في هذا النقاش على الطبيب ديزاريوس Disarius أسئلة علمية منها: هل الطعام البسيط خير من الطعام المتعدد الألوان؟ ولم يندر أن ترى امرأة سكرى؟ ولم يسكر المسنون من الرجال على الدوام؟ هل طبيعة الرجال أقل أو أكثر حرارة من طبيعة الناس؟. ويدور النقاش حول التقويم، وفيه تحليل طويل لألفاظ فرجيل، ونحوه، وأسلوبه، وفلسفته، وسرقاته؛ وفيه فكاهات مأخوذة من جميع العصور، ورسالة عن الولائم الدسمة، والأطعمة النادرة. وتبحث في المساء مسائل أخف من هذه يتسلى بها هؤلاء العلماء منها: لم تحمر وجوهنا من الخجل وتصفر من الخوف؟ -ولم يبدأ الصلع من أعلى الرأس؟ وأيهما أسبق من الآخر الفرخ أو البيضة؟
ونجد في مواضع متفرقة من هذا الخليط المهوش فقرات سامية كالتي يتحدث فيها بريتكستاتوس عن الرق فيقول:
لن أقدر الناس بمراكزهم بل بآدابهم وأخلاقهم، لأن الثانية ثمرة طباعنا أما الأولى فهي نتيجة الصدفة .. وينبغي لك يا إفنجيلوس أن تبحث عن أصدقائك في منزلك لا في السوق العامة ولا في مجلس الشيوخ. عامل عبدك بالرفق والحسنى، وأشركه في حديثك، وأدخله أحياناً في مجالسك الخاصة. وقد عمل أباؤنا على محو الكبرياء من نفس السيد والخجل من نفس العبد بأن سموا الأول "والد الأسرة" وسموا الثاني "أحد أفراد الأسرة" وإن عبيدك ليبادرون إلى احترامك أكثر من مبادرتهم إلى خوفك (٣٥).