ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال (٣٢). ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع، ويعرض جسمه العريان للذباب السام (٣٣). ومن الرهبان من أوفوا على الغابة من أعمال العزلة؛ ومن ذلك سرابيون Serapion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها عدد قليل من الحجاج. ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلاً لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقه تستر حقويه، ويغطي الشعر وجهه وكتفيه، ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكوّن من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر. ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف روما (٣٤). ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاماً مثل بساريون Bessarion أو خمسين عاماً مثل باخوم (٣٥). منهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عدداً كبيراً من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة. ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزاناً ثقالاً أينما ذهبوا. ومنهم من كانوا يشدون أعضائهم بأطواق أو قيود أو سلاسل. ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة (٣٦). وكان النساك المنفردون جميعهم تقريباً يعيشون على قدر قليل من الطعام، ومنهم من عمّروا طويلاً. ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئاً غير التين وخبز الشعير. ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف، وبعث به إلى ناسك آخر، وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء (كما يؤكد لنا روفينس)، وعاد مرة أخرى كاملاً إلى مكاريوس (٣٧). وكان الحجاج، الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي ليشاهدوا رهبان الشرق، يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح، فكانوا -كما يقولون- يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة؛ وكانوا يروّضون الأفاعي أو الآساد بنظرة