التجارة بعد إنطاكية (٧). وكانت سوريا كلها تعج بالمتاجر والمصانع، ويرجع هذا إلى موقعها بين بلاد الفرس والقسطنطينية، وبين القسطنطينية ومصر، وإلى ما اتصف به تجارها من حذق وحب للمغامرة بحيث لم يكن ينافسهم في انتشار كجارتهم ودهائهم إلا اليونان الذين لا يجارونهم في المثابرة والجلد، كما يرجع إلى انتشارهم هم أنفسهم في جميع بلاد الإمبراطورية، فكانوا بذلك عاملاً في إيجاد ذلك الطابع الأخلاقي والفني الذي طبعت به الحضارة البيزنطية.
وإذا كان الطريق التجاري القديم بين سوريا وأواسط آسية يخترق بلاد الفرس المعادية للدولة البيزنطية، فقد أراد جستنيان أن ينشئ طريقاً جديداً بإقامة صلات ودية بينه وبين الحميريين المقيمين في الطرف الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، وملوك الحبشة، وكان هؤلاء وأولئك يسيطرون على أبواب البحر الأحمر الجنوبية. وكانت السفن التجارية البيزنطية تخترق هذه المضايق والمحيط الهندي في طريقها إلى الهند؛ ولكن الفرس الذين كانوا يسيطرون على ثغور الهند كانوا يفرضون على هذه التجارة رسوماً عالية كأنها تمر ببلاد إيران نفسها. فلما خاب رجاء جستنيان في هذا الطريق شجع إنشاء المرافئ البحرية على البحر الأسود، فكانت المتاجر ترد إلى هذه المرافئ ثم تنقل في السفن إلى خلقيس Colchis ومنها بطرق القوافل إلى سجديانا Sogdiana، حيث يلتقي تجار الصين وتجار الغرب ويتساومون دون أن يتدخل الفرس فيما بينهم. وبفضل هذه التجارة الناشطة التي كانت تسير في هذا الطريق الشمالي ارتفعت سيرنديا إلى أعلى درجات الثروة والفن في العصور الوسطى. وظلت التجارة اليونانية في هذه الأثناء محتفظة بمنافذها القديمة في الغرب.
وكان من أكبر العوامل في هذا النشاط الاقتصادي الكبير النقد الإمبراطوري الذي كان عملة مقبولة في جميع أنحاء العالم تقريباً لثباته وسلامته. وكان قسطنطين قد سك نقداً جديداً ليحل محل الأوريوس Aurues الذي سكه