هذا الاضطراب وأخمد الفتنة بشجاعة وقسوة، فلما استتب له الأمر حكم البلاد بكثير من الرأفة، والحكمة والعدالة. وأخضع قائده الحجاج بن يوسف أهل الكوفة وأعاد حصار مكة. ودافع عنها عبد الملك، وكان وقتئذ في الثانية والسبعين من عمره، دفاع الأبطال، وكانت أمه المعمرة تشجعه وتحرضه، ولكنه هُزم وقُتل، وحمل رأسه إلى أمه؛ وبعد أن ظل جسده مصلوباً بعض الوقت اُسلم إلى أمه (٦٩٢). وفي سني السلم التي أعقبت هذا القتال، أخذ عبد الملك يقرض الشعر، ويناصر الأدب، ويُعنى بشؤون بيتهِ، ويربي أبناءه الخمسة عشر، وقد تولى الخلافة منهم أربعة.
ودام حكمه عشرين عاماً مهد فيها السبيل للأعمال العظيمة التي قام بها ابنه الوليد الأول (٧٠٥ - ٧١٥). ففي عهده واصل العرب فتوحهم، فاستولوا على بلخ في عام ٧٠٥، وعلى بخارى في عام ٧٠٩، وفتحوا أسبانيا في عام ٧١١، وسمرقند في ٧١٢. وفي الشرق حكم الحجاج البلاد بحزم وجد وقام فيها بأعمال إنشائية لا تقل عما لجأ إليهِ في هذا الحكم من قسوة: فقد جفف المستنقعات، وأصلح كثيراً من الأراضي وأعدها للزراعة، وأعاد فتح ما طمر من قنوات الري وأصلحها. ثم لم يقنع بهذه الأعمال فأحدث انقلاباً كبيراً في طريقة الكتابة باستعمال حركات الإعراب، وكان الحجاج مدرساً قبل أن يكون والياً. أما الوليد نفسه فكان مثلاً طيباً للحكام، يُعنى بشؤون الإدارة أكثر من عنايته بالحرب، ويشجع الصناعة والتجارة بفتح الأسواق الجديدة وإصلاح الطرق، ويُنشئ المدارس والمستشفيات-ومنها أول مستشفى معروف للأمراض المعدية-وملاجئ للشيوخ، والعجزة، والمكفوفين، ويوسع مساجد مكة والمدينة وبيت المقدس ويجملها، وينشئ في دمشق مسجداً أعظم من هذه المساجد وأفخم لا يزال باقياً فيها حتى اليوم. وكان يجد بين هذه المشاغل كلها متسعاً من الوقت يقرض فيه الشعر، ويؤلف الألحان الموسيقية، ويضرب على العود،