الفلاحون، والصناع، والتجار يرون مكاسبهم تذهب كلها للوفاء بنفقات الحكومة وأبهة الحكام، فانعدم الحافز للعمل والإنتاج، والتوسع فيهما، والمغامرة والإقدام. وانتهى الأمر بأن عجزت موارد الدولة عن الوفاء بحاجة الحكومة، وقلت الإيرادات، ولم يعد في وسع الحكام أن يؤدوا أجور الجند بانتظام، أو أن يسيطروا عليهم. ويضاف إلى هذا أن الترك قد حلوا محل العرب في القوات المسلحة، كما حل الألمان محل الرومان في جيوش روما، وكان رؤساء الجند الأتراك من عهد المعتصم إلى آخر أيام الدولة العباسية هم الذين يرفعون الخلفاء إلى العرش ويسقطونهم، ويأمرونهم، ويغتالونهم. وأصبحت قصور الخلفاء في بغداد مباءة للدسائس الدنيئة، والاغتيالات وسفك الدماء، مما جعل الخلافة العباسية في آخر أيامها غير خليقة بأن يبقى التاريخ على ذكرها.
وكان ضعف النشاط السياسي والقوة الحربية في عاصمة الدولة سبباً في تمزيق شملها وتقطع أوصالها. فأصبح الولاة يحكمون ولاياتهم دون أن يكون للخلفاء في العاصمة سلطان عليهم اللهم إلا سلطاناً اسمياً غير ذي بال. وأخذوا يعملون ليحتفظوا لأنفسهم بمناصبهم طول حياتهم، ثم لم يكتفوا بهذا بل عملوا على أن يرثها من بعدهم أبناؤهم. وكانت بلاد الأندلس قد أعلنت استقلالها عن الخلافة العباسية في عام ٧٥٦، وحذت حذوها مراكش في عام ٧٨٨، وتونس في ٨٠١ ومصر في ٨٦٨. وبعد تسع سنين من ذلك العام الأخير استولى أمراء مصر على الشام، وحكموا الجزء الأكبر منها حتى عام ١٠٧٦ وكان المأمون قد كافأ قائده طاهر بأن عينه حاكماً على خراسان وجعل ولايتها وراثية في أبنائه من بعده. وحكمت هذه الأسرة الطاهرية بلاد الفرس حكماً شبه استقلالي حتى حلت محلها أسرة الصفارين (٨٧٢ - ٩٠٣)، وفيما بين عامي ٩٢٩، ٩٤٤ استولت أسرة من الشيعة هي أسرة بني حمدان على شمالي الجزيرة والشام، ورفعوا من شأن حكمهم بأن جعلوا الموصل وحلب مركزين عظيمين من مراكز الحياة الثقافية في