العرب النفط والقار في بعض أعمالهم، فقد وجد بين محفوظات هارون الرشيد ورق سجل فيها ثمن النفط والعشب اللذين استخدما في حرق جثة جعفر (٤)، وكانت الصناعة لا تزال في مرحلة العمل اليدوي، يقوم بها الأهلون في البيوت والحوانيت، وينتظمون في طوائف. وقل أن تعثر في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت على مصانع بالمعنى الحديث، ولا نجد دليلاً واضحاً على ارتقاء الفنون الصناعية فوق المرحلة اليدوية والجهود العضلية إذا استثنينا الطواحين الهوائية. فالمسعودي أحد مؤرخي القرن العشر يقول إنه شاهد هذه الطواحين في فارس وبلاد الشرق الأدنى، مع أننا لا نجد أثراً لها في أوروبا قبل القرن الثاني عشر، ولعلها كانت هدية أخرى أهداها الشرق الإسلامي إلى أعدائه الصليبيين (٥). وكان العرب على جانب كبير من المهرة الآلية الفنية، وشاهد ذلك أن الساعة المائية التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان قد صُنعت من الجلد والنحاس الأصفر المنقوش. وكانت تدل على الوقت بفرسان من المعدن يفتحون كل ساعة باباً يسقط منه العدد المطلوب من الكرات على صنجة، ثم ينسحبون ويغلقون الباب (٦). وكان الإنتاج بطيئاً، ولكن الصانع في وسعه أن يُظهر مهارته فيما ينتجه من تحف وأدوات كاملة الصنع، وكاد يجعل من كل صناعة فناً. واشتهرت المنسوجات الفارسية، والشامية، والمصرية بجمالها الفني الرائع الذي كان يتطلب من الصناع مهارة وصبراً؛ فاشتهرت الموصل بنسج القطن الرفيع "الموصلين"، ودمشق بنسيج التيل "الدمقس"، وعدن بالصوف. واشتهرت دمشق أيضاً بالسيوف المصنوعة من الصلب المسقى؛ وصيدا وصور بزجاجهما الذي لا يدانيه في رقته وصفائه، وبغداد بزجاجها وخزفها، والري بخزفها، وإبرها، وأمشاطها؛ واشتهرت الرقة بزيت الزيتون والصابون، وفارس بالروائح العطرية والطنافس. وبلغت بلاد آسية الغربية تحت حكم المسلمين درجة من الرخاء الصناعي والتجاري لم تصل إليها بلاد أوروبا الغربية قبل القرن السادس عشر (٧).