وكان المفروض أن الشريعة التي تحكم بها الدولة المترامية الأطراف مستمدة من نصوص القرآن. ذلك أن القانون والدين كانا عند المسلمين، كما كانا عند اليهود، شيئاً واحداً. فكل جريمة خطيئة، وكل خطيئة جريمة، ولذلك كان فقه القانون عند المسلمين فرعاً من علوم الدين. فلما أن زادت الفتوح من التبعات الملقاة على الشريعة الإسلامية ونشأت حالات جديدة لم ينص عليها القرآن وضع بعض المشرعين المسلمين أحاديث لمواجهة تلك الحالات صراحة أو ضمناً، وبهذا أصبح الحديث مصدراً ثانياً من مصادر التشريع الإسلامي (١)، وكان من المصادفات الغريبة المتكررة أن هذه الأحاديث تردد أصداء المبادئ والأحكام والشرائع الرومانية والبيزنطية، وتردد أكثر من ذلك مبادئ المشنار وجمار اليهود وأحكامهما (٧٤). وكانت الزيادة المطردة في هذه الأحاديث التشريعية الكثيرة مما رفع من شأن مهنة القضاء في البلاد الإسلامية، وخلع على الفقهاء الذين يفسرون القانون أو يطبقونه من السلطان والتعظيم ما لا يقل عما كان لطبقة الكهنة والقساوسة عند غير المسلمين. وقد عل هؤلاء ما عله أمثالهم ي فرنسا في القرن الثاني عشر، فقد تحالفوا مع الملكية، وأيدوا حكم العباسيين المطلق، ونالوا جزاءهم على هذا التأييد.
ونشأت في البلاد الإسلامية السنية أربعة مذاهب: أولاها مذهب أبي حنيفة ابن ثامت (المتوفى عام ٧٦٧) وقد أحدث انقلاباً كبيراً في الشريعة الإسلامية باتباع مبدأ العباس في تفسير القرآن. وهو يرى أن القانون الذي سن أول الأمر لأهل الصحراء يجب ألا يؤخذ بحرفيته بل بروحه إذا أريد تطبيقه على مجتمع صناعي أو حضري. وعلى هذا الأساس أجاز أبو حنيفة قروض الرهن
(١) لسنا ننكر أن هناك أحاديث منحولة ولكننا نعتقد أن الأحاديث الصحيحة السند معين لا ينضب للتشريع. (المترجم)