ويشبه هذا ما فعله هلل في فلسطين قبل ذلك العهد بثمانية قرون. ومن أقوال أبي حنيفة في هذا المعنى إن القاعدة القانونية تختلف عن قواعد النحو والمنطق، فهي تمثل سنة عامة تتغير بتغير الظروف التي أوجدتها (٧٥). وخرج من بين أهل المدينة المحافظين عالم آخر لا يجيز هذه الفلسفة الحرة التقدمية في التشريع، وهو مالك بن أنس (٧١٥ - ٧٩٥). وقد أقام مالك مذهبه بعد دراسة واسعة لألف وسبعمائة من الأحاديث التشريعية، ويقول إنه لما كانت كثرة هذه الأحاديث قد صدرت في المدينة، فإن إجماع أهل المدينة هو الذي يجب أن يؤخذ به تفسير الحديث والقرآن. ويرى محمد الشافعي (٧٦٧ - ٨٢٠) الذي عاش في بغداد والقاهرة ألا يقتصر هذا الحق على أهل المدينة، وأن الإجماع في كل بلاد الإسلام هو المحك الأخير للشرائع والسنة والحقيقة. ويرى أحمد بن حنبل أن هذا المقياس غامض وأوسع مما ينبغي، وأنشأ مذهباً أساسه أن القرآن والحديث وحدهما يجب أن يكونا أساس التشريع. وندد بمذهب المعتزلة العقلي في الفلسفة، وألقى به المأمون في السجن لتمسكه الشديد بمذهب أهل السنة، ولكنه استمسك بآرائه بشجاعة عظيمة كان من أثرها أن خرجت بغداد على بكرة أبيها تشيع جنازته لما أن وافته منيته.
غير أن ما بين المذاهب الإسلامية الأربعة، التي يعترف بها أهل السنة في الإسلام، من الاتفاق في التفاصيل لا يقل عما بينها من الاختلاف في المبادئ، وذلك على الرغم من هذا الجدل الطويل الذي ظل قائماً مائة عام. فهي كلها تؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله، وبأن كل شريعة خليقة بأن يحكم بها الجنس البشري الذي لا يخضع بفطرته للقانون، ويجب أن تكون أصولها منزلة من عند الله. وهي كلها تسرف في وضع تفاصيل قواعد السلوك والشعائر الإسلامية إسرافاً لا يجاريها فيه إلا الدين اليهودي، وقد عنى المشرعون بكثير من التفاصيل كطريقة استعمال السواك، وسنن الزواج، وما يليق وما لا يليق من ثياب الرجال