للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والحق أن ميتافيزيقية ابن سينا تكاد تكون خلاصة ما وصل إليه المفكرون اللاتين بعد مائتي عام من أيامهِ من توفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة في الفلسفة المدرسية. وهو يبدأ بشرح مفصل بذل فيه جهداً شاقاً لمذهب أرسطو والفارابي في المادة والصورة، والعلل الأربع، والممكن والواجب، والكثرة، والواحد، ويدهشه كيف تستطيع الكثرة الممكنة المتغيرة-كثرة الأشياء الفانية-أن تصدر عن الواحد الواجب الوجود الذي لا يتغير. وهو يفعل ما يفعله أفلاطون فيفكر في حل هذه المشكلة بافتراض وجود وسيط بينهما هو العقل الفاعل منتشراً في العالم السماوي، والمادي، والبشري، وهو النفس. ثم إنه وجد شيئاً من الصعوبة في التوفيق بين الانتقال من عدم الخلق إلى الخلق وبين صفة عدم التغير الملازمة لله، فينزع إلى الاعتقاد مع أرسطو بقدم العالم المادي، ولكنه يدرك أن هذا سيؤلب عليه جماعة المتكلمين فيعرض عليهم حلاً وسطاً كثيراً ما لجأ إليهِ الفلاسفة المدرسيون وهو: أن وجود الله سابق على وجود العالم سبقاً ذاتياً لا زمانياً، أي في المرتبة والجوهر والعلة؛ فوجود العالم يعتمد في كل لحظة من اللحظات على وجود القوة الحافظة له، وهي الله؛ ويقول ابن سينا إن كل الموجودات "ممكنة" حتى الأفلاك نفسها أي أنها ليست واجبة الوجود أو محتومة. وهذه الممكنات لا بد لوجودها من علة تتقدمها وتخرجها إلى الوجود، ولهذا لا يمكن تفسير وجودها إلا بإرجاعها بعد سلسلة من العلل إلى موجود واجب الوجود، أي واحد قائم بذاتهِ هو العلة الأولى لسائر الموجودات. والله وحده هو الموجود بذاتهِ، وإن وجوده اهو عين ماهيتهِ فهو واجب الوجود. ولولاه لما كان شيء مما يمكن أن يكون. ولما كان العالم كله ممكناً أي أن وجوده ليس بذاتهِ، فإن الله لا يمكن أن يكون مادة بل إنه بريء من الجسم، وهو العقل، واحد من كل وجه لا تركيب فيهِ. ولما كان في المخلوقات كلها عقل فلا بد أن يكون في خالقها عقل أيضاً. وهذا العقل الأول يرى كل شيء-الماضي والحاضر والمستقبل-لا في وقت ولا بالتتابع،