بل يراه كله مرة واحدة. وحدوث هذه الأشياء هو النتيجة الزمنية لفكرة اللازمني. ولكن الأفعال والحوادث لا تصدر عن الله مباشرة، بل إن الأشياء تتطور بفعل غائي داخلي-أي أن لها أغراضاً ومصائر في ذاتها. ولهذا فإن الله لا يصدر عنه الشر، بل إن الشر هو الثمن الذي نؤديه نظير ما لنا من حرية الإرادة، وقد يكون الشر للجزء هو الخير للكل (٦٩).
ووجود النفس يدل عليه التأمل الداخل المباشر. والنفس لهذا السبب عينه روحانية، فنحن لا ندرك أكثر من أنها كذلك، وأفكارنا منفصلة انفصالاً واضحاً عن أعضائنا. وهي مبدأ الحركة الذاتية والنماء في الجسم؛ وبهذا المعنى تكون للكواكب نفوس. والكون كله مظهر لمبدأ الحياة العام (٧٠). والجسم وحده لا يستطيع أن يكون فاعلاً، بل إن سبب كل حركة من حركاته هو نفسه التي تحل فيه، ولكل نفس ولكل عقل قدر من الحرية والقدرة على الخلق والإبداع شبيهة بقدرة السبب الأول لأنها فيض منه. وتعود النفس الخالصة بعد الموت إلى الاتصال بالفعل الكلي، وفي هذا الاتصال تكون سعادة السعداء الصالحين (٧١).
وقد بذل ابن سينا كل ما يستطيع أن يبذله من الجهود للتوفيق بين الآراء الفلسفية وعقائد جمهرة المسلمين. فلم يكن مثل لكريشيوس يرغب في القضاء على الدين من أجل الفلسفة، ولم يكن كالغزالي في القرن الذي بعده يريد أن يقضي على الفلسفة من أجل الدين، بل هو يعالج كل مسألة مستنداً إلى العقل وحده، غير متقيد مطلقاً بالدين؛ ويحلل الوحي في ضوء قوانين الطبيعة (٧٢)، ولكنه يؤكد حاجة الناس إلى الأنبياء ليبينوا لهم قواعد الأخلاق في صور من الاستعارات والمجازات تفهمها عقولهم وتتأثر بها. وبهذا المعنى يكون النبي رسول الله لأنه يضع الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي والاجتماعي (٧٣). ومن أجل هذا كان النبي ينادي ببعث الأجسام، وكان في بعض الأحيان يصور الجنة تصويراً مادياً؛ والفيلسوف، وإن كان يشك في خلود الجسم، يدرك أنه لو أن النبي