للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد اقتصر على تصوير الجنة تصويراً روحياً محضاً لما استمع الناس إليه، ولما تألفت منهم أمة واحدة قوية منظمة. وأرقى البشر وأرفعهم درجة هم الذين يستطيعون أن يعبدوا الله عبادة تقوم على الحب الحر، وهو الذي لا ينبعث من الرغبة أو الرهبة، ولكن هؤلاء لا يكشفون عن هذه المرتبة السامية لعامة أتباعهم بل يكشفونها لمن كملت عقولهم وسمت نفوسهم (٧٤).

وكتابا الشفاء والقانون لابن سينا هما أرقى ما وصل إليه التفكير الفلسفي في العصور الوسطى، وهما من أعظم البحوث في تاريخ العقل الإنساني. وهو يسترشد في كثير من بحوثهِ في الكتابين بأرسطو والفارابي، كما استرشد أرسطو في كثير من بحوثهِ بأفلاطون. غير أن هذا لا ينقص من قدره، ذلك أن نزلاء المستشفيات العقلية هم وحدهم المبدعون تمام الإبداع الذين لا يتأثرون بعقول غيرهم. وفي بعض أقوال ابن سينا ما يبدو لعقولنا المعرضة إلى الخطأ أنه سخف وهراء، ولكن هذا الحكم بعينهِ ينطبق أيضاً على أقوال أفلاطون وأرسطو، والحق أنه ليس ثمة سخيف لا نجده في صحف الفلاسفة. ولسنا نجد عند ابن سينا ما نجده عند البيروني من أمانة التشكك، وروح النقد، واتساع الأفق، وحرية العقل، وهو أكثر منه أخطاء، ذلك أ، البحوث التركيبية لا بد أن تؤدي هذا الثمن ما دامت الحياة على ما هي من قصر الأمد. ولقد بز الرئيس ابن سينا جميع أقرانه بوضوح أسلوبهِ، وحيويتهِ، وبقدرتهِ على جعل التفكير المجرد مشرقاً بعيداً عن السآمة والملل بما يبثه فيه من القصص الإيضاحية وأبيات الشعر التي لا نرى عليهِ مأخذاً في إيرادها، وباتساع مجاله الفلسفي والعلمي اتساعاً منقطع النظير. ولقد كان ابن سينا عظيم الأثر فيمن جاء بعده من الفلاسفة والعلماء، وقد تعدى هذا الأثر بلاد المشرق إلى الأندلس حيث شكل فلسفة ابن رشد وابن ميمون، وإلى العالم المسيحي اللاتيني وفلاسفته