للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من شاهدة وجهكَ؛ إلهي! كل ما قدرَّتهُ لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائكَ، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائكَ، لأني لا أسعى إلا إليكَ وحدكَ" (١).

ولنختر من بين الصوفية وهم كثيرون واحداً من الأولياء الصالحين هو الشاعر أبو سعيد بن أبي الخير (٩٦٧ - ١٠٤٩). ولد هذا الرجل في ميهنة من أعمال خراسان واتصل بابن سينا؛ ويروى عنه أنه قال في هذا الفيلسوف إن ما يراه ابن سينا يعرفه هو (٨٨). وقد أولع في صباه بالأدب البذيء، ويقول عن نفسهِ إنه حفظ عن ظهر قلب ثلاثين ألف بيت لشعراء الجاهلية. ولما بلغ السادسة والعشرين من عمرهِ سمع في يوم من الأيام درساً لأبي عليّ يدور حول قوله تعالى "قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون". ويقول أبو سعيد إنه ما كاد يسمع هذه الآية حتى فُتح في قلبهِ باب الإيمان وكأنما انتزع من نفسهِ فجمع كتبهُ كلها وأحرقها ثم آوى إلى ركن في بيتهِ، وجلس فيهِ سبع سنين يذكر فيها اسم الله. ولقد كان تكرار لفظ الجلالة عند الصوفية المسلمين سبيلاً محببة إلى "الفناء" ويقصدون بهِ انتقال الصوفي عن نفسهِ في حال وجده. وزاد أبو سعيد على هذا عدة أساليب من الزهد والتقشف، فلم يلبس إلا قميصاً واحداً، ولم يتكلم إلا عند الضرورة القصوى، ولم يذق الطعام إلا وقت الغروب. ولم يكن طعامهُ إلا كسرة من الخبز، ولم يرقد على فراش لينام، وحفر في جدار بيتهِ حفرة، لا تزيد حين يقف فيها على طولهِ وعرضهِ، وكثيراً ما كان يحبس نفسهُ فيها. ويسد أذنيه لكيلا تصل إليهما أصوات من الخارج. وكان في بعض الليالي يربط نفسه بحبل ويتدلى برأسهِ في بئر، ويتلو القرآن كله قبل أن يخرج إلى سطح الأرض-هذا إذا صدقنا قول أبيه عنه. وقد عكف على خدمة غيره من الصوفية، فكان يتسول لهم، وينظف


(١) نقلنا هذا النص عن "تذكرة الأولياء للعطار، والذي أورده المؤلف هو الجزء الثاني، وقد أضفنا نحن الجزء الأول إتماماً للفائدة. (المترجم)