للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أفاق أوتي من الذكاء الفكاهة أكثر مما أوتي من الأخلاق الطيبة. وكانت عقول أهل الشرق الأدنى في ذلك الوقت تتأثر بما يصل إليها عن طريق الأذن، شأنهم في هذا شأن جميع الناس قبل اختراع الطباعة، وكان الأدب عند معظم المسلمين لا يعدو أن يكون قصيدة تنشد أو قصة تروى؛ وكانت القصائد تُكتب لكي تُقرأ بصوتٍ عالٍ أو تُغنى، وكان كل شخص في بلاد الإسلام من الخليفة إلى الفلاح يطرب لسماعها. وقلما كان هناك شخص لا يقرض الشعر-كما كانت الحال عند طبقة السموراي في بلاد اليابان. وكان من ضروب التسلية العامة لدى الطبقات المتعلمة أن يكمل شخص بيتاً من الشعر بدأه غيره، أو يتم مقطوعة بدأها زميله، أو ينافس مناظراً له في ارتجال مقطوعة غنائية أو نكتة شعرية. وكان الشعراء ينافس بعضهم بعضاً في ابتداع ضروب معقدة من الأوزان والقوافي، وكان كثيرون منهم يقفون أواسط الأبيات الشعرية وأواخرها، وكثرت ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي وكان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوربي.

ولم تضارع حضارة من الحضارات ولم يضارع عصر من العصور-لا نستثني من هذا التعميم حضارة الصين في أيام لي بو، ودوفو، ولا حضارة فيمار Veimar حين كان فيها "مائة مواطن وعشرة آلاف شاعر"-الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم. وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني (٨٩٧ - ٩٦٧) في أواخر ذلك العصر كثيراً من أشعارهم في كتاب الأغاني. وحسبنا دليلاً على غنى الشعر العربي وتنوعه أن نعرف أن هذا الكتاب يتكون من عشرين مجلداً. وكان الشعراء ينشرون الدعايات المختلفة، والناس يخشون هجومهم اللاذع، والأغنياء يبتاعون مديحهم بيتاً بيتاً، والخلفاء يجزون الشعراء بالمناصب العالية وينفحونهم بالهبات السخية إذا قالوا فيهم قصائد من الشعر أو مجدوا أعمالهم أو مدحوا قبائلهم. ويحكى أن هشاماً أراد مرة أن