للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المدينة يدهشون من ثراء الطبقات العليا، ومما كان يبدو لهم أنه رخاء عام،؛ فقد كان في وسع كل أسرة أن يكون لها حمار؛ ولم يكن يعجز عن الركوب إلا المتسولون. وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طواران على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال على ضوء مصابيح الشوارع وبين صفين لا ينقطعان من المباني (٦٣). وقد أقام المهندسون العرب على نهر الوادي الكبير الهادئ الجريان جسراً من الحجارة ذا سبعة عشر عقداً عرض كل واحد منها خمسون شبراً. وكان من أولى منشئات عبد الرحمن الأول قناة تحمل إلى مدينة قرطبة كفايتها من ماء الشرب تنقله إلى المنازل والحدائق، والفساقي والحمامات، واشتهرت المدينة بكثرة ما كان فيها من الحدائق والمتنزهات.

وكان عبد الرحمن الأول شديد الحنين إلى مسارح صباه، فأنشأ في قرطبة بستاناً عظيماً شبيهاً بالقصر الريفي الذي قضى فيه أيام صباه بالقرب من دمشق، وشاد في هذا البستان قصره المعروف "بقصر الرصافة"، وأضاف إليه من جاء بعده من الخلفاء أجنحة أخرى خلع عليها خيال المسلمين أسماء زاهية كقصر الروضة … وقصر المعشوق … وقصر السرور … وقصر التاج (١). وكان لقرطبة كما كان لإشبيلية قصرها الذي يجمع بين بيت السكن العظيم والحصن المنيع. ويصف مؤرخو العرب هذه القصور وصفاً يجعلها تضارع في جمالها وترفها قصور نيرون في روما: يصفون أبوابها الفخمة، وعمدها الرخامية، وأرضها المرصوفة بالفسيفساء، وسقفها المذهبة، وما فيها من النقوش الجميلة التي لا يقد عليها إلا الفن الإسلامي وحده. وكانت قصور الأسرة المالكة، وكبار الملاك والتجار تمتد على شاطئ النهر العظيم؛ وقد ورث عبد الرحمن الثالث من إحدى جواريه ثروة طائلةـ وأراد أن ينفقها في افتداء من عساهم يكونون في الأسر من


(١) والكامل، والمجدد، والحائر، والزاهر، والمبارك، والرستق، والبديع. (المترجم)