فليس ذلك بذي خطر لأن أصلها باقٍ مخلد. وما من شكل جميل رأيته، أو قول حكيم سمعته-فلا يحزنك أنه قد فني لأنه في واقع الأمر لم يفنَ … فما دام النبع فياضاً فإن الأنهار تجري منه. فاطرد الغم من قلبك وعبِ من هذا النهر، ولا تظنن أن الماء سيفرغ فمعينه لا ينضب.
ولقد وضع أمام من ساعة مجيئك إلى عالم الخلق سلم لتفر عليه منه. ولقد كنت في أول الأمر جماداً، ثم استحلت بعدئذٍ نباتاً ثم صرت حيواناً، فكيف يخفى عليك؟ ثم جعلت بعدئذ إنساناً ذا علم، وعقل، ودين … فإذا ما واصلت رحلتك بعد الآن، أصبحت بلا ريب ملاكاً.
وانتقل مرة أخرى من طائفة الملائكة، وادخل ذلك البحر الخضم حتى تصبح نقطتك بحراً … دع عن هذا "الابن" وقل: "الواحد" على الدوام بكل قلبك (٤٨).
وتذكر أخيراً السعدي، ولا حاجة إلى القول بأن اسمه الحقيقي أطول من هذا فهو مشرف الدين بن مصلح الدين عبد الله. وكان أبوه يشغل منصباً في بلاط سعد بن زنجي أتابك شيراز، ولما مات أبوه تبنى الأتابك الغلام، والذي جرى على سنة المسلمين فأضاف اسم وليه إلى اسمه. ويختلف العلماء في تاريخ مولده ووفاته، فمنهم من يقول إنهما ١١٨٤، ١٢٨٣ (٤٩)، ومنهم من يقول إنهما ١١٨٤، ١٢٩١ (٥٠)، ومنهم من يحددهما بعامي ١١٩٣؛ ١٢٩١ (٥١). ومهما يكن هذان التاريخان فإنه عاش ما يقرب من مائة عام. ويقول هو نفسه إنه كان في صباه متمسكاً أشد التمسك بأهداب الدين … تقياً إلى أبعد حدود التقوى، عفيفاً أشد العفة (٥٢). وبعد أن أتم علومه في المدرسة النظامية ببغداد (١٢٢٦)، بدأ رحلته العجيبة التي قضى فيها ثلاثين عاماً طاف فيها بجميع بلاد الشرقين الأدنى والأوسط-الهند، وبلاد الحبشة، ومصر، وشمال إفريقية. وقاسى فيها كل أنواع الصعاب، وذاق مرارة الفقر والحرمان، وقد قال عن نفسه