وأنجب هذا العصر عالمين في تقويم البلدان طبقت شهرتهما العالم كله في العصور الوسطى، ونعني بهما الإدريسي وياقوت. فأما أبو عبد الله محمد الإدريسي فقد ولد في سنة ١١٠٠ وتلقى العلم في قرطبة، وكتب في بلرم إجابة لطلب روجر الثاني ملك صقلية، كتابه المسمى كتاب روجاري وقد قسم فيه الأرض سبعة أقاليم مناخية ثم قسم كل إقليم إلى عشرة أجزاء، ورسم لكل جزء من الأجزاء السبعين خريطة تفصيلية إيضاحية، وكانت هذه الخرائط أعظم ما أنتجه علم رسم الخرائط في العصور الوسطى، لم ترسم قبلها خرائط أتم منها، أو أدق، أو أوسع وأعظم تفصيلاً. وكان الإدريسي يجزم كما تجزم الكثرة الغالبة من علماء المسلمين بكرية الأرض، ويرى أن هذه حقيقة مسلم بصحتها. ويقاسمه هذا الشرف العظيم شرف حمل لواء علماء الجغرافية في العصور الوسطى أبو عبد الله ياقوت (١١٧٩ - ١٢٢٩). وكان ياقوت بمولده يونانياً من سكان آسية الصغرى، وأسر في الحرب وبيع في سوق الرقيق، ولكن التاجر البغدادي الذي ابتاعه أحسن تربيته وتعليمه، ثم أعتقه. وكان ياقوت كثير الأسفار، سافر أولاً للتجارة، ثم سافر لدراسة الأرض وأهلها، لأنه أعجب أشد الإعجاب ببلادها، وسكانها المختلفي الأجناس، وبلباسهم وأساليب حياتهم. وقد سره وأثلج صدره أن يجد عشر مكاتب عامة تحتوي إحداها على ١٢. ٠٠٠ مجلد، وف أمين هذه المكتبة لشأن الزائر فسمح له أن يأخذ منها مائتي كتاب إلى حجرته دفعة واحدة. وما من شك في أن الذين يحبون الكتب يرون أنها دم الحياة يجري في عروق عظماء الرجال يدركون ما شعر به ياقوت من بهجة حين حصل على الكنز العظيم من كنوز العقل. ثم انتقل ياقوت بعدئذ إلى خيوة وبلخ، وهناك أوشك المغول أن يقبضوا عليه أثناء زحفهم المخرب الفتاك، ولكنه استطاع الفرار عارياً من الثياب، وهو محتفظ بمخطوطاته، واجتاز بلاد الفرس إلى الموصل. وأنم وهو يعاني آلام الفاقة وشظف العيش أثناء عمله في نسخ الكتب كتابه الشهير معجم البلدان (١٢٢٨)