أحدهما العقل القابل أو المادي وهو استعداد الإنسان أو قدرته على التفكير أو المعرفة العقلية، وهذا العقل جزء من الجسم يفنى بفنائه (الجهاز العصبي؟)، والثاني العقل الفعال، المستمد من الله، وهو الذي يبعث العقل القابل على التفكير الفعلي، وهذا العقل الفعال لا يختلف في فرد عنه في آخر؛ بل هو سواء في الناس كلهم، وهو وحده الخالد الذي لا يفنى (١٠٩). ويشبه ابن رشد عمل العقل الفعال في الفرد أو في العقل القابل بتأثير الشمس التي يجعل ضوءها كثيراً من الأجسام نيرة، ولكنه يبقى في كل مكان، ويظل على الدوام كما كان (١١٠). يسعى العقل الفردي للاتحاد مع العقل الفعال، كما تمتد النار إلى الأجسام القابلة للاحتراق. وبهذا الاتصال يصبح العقل البشري شبيهاً بالله، لأنه يستحوذ على الكون كله بالقوة في فكره، والحق أن العالم وكل ما فيه ليس له وجود بالنسبة لنا، وليس له معنى، إلا عن طريق العقل يدركه (١١١). وإدراك الحقيقة وحده عن طريق الذهن هو الذي يؤدي بالعقل إلى الاتحاد مع الله ذلك الاتحاد الذي يظن المتصوفة أنهم يستطيعون الوصول إليه بالتدريب النفساني على الزهد أو بالنشوة التي تحدث بالأذكار. وابن رشد بعيد كل البعد عن عقائد المتصوفة وعن الأسرار الخفية. ويرى أن الجنة ليست إلا ما يستمتع به العقلاء من حكمة هادئة محببة إلى النفس (١١٢).
وهذه هي النتيجة التي وصل إليها أرسطو نفسه، ولا حاجة إلى القول بأن نظرية العقل الفعال والعقل المنفعل (nous pathetikos nous poietikos) مرجعها كتاب النفس لأرسطو De Anima (المقالة الثالثة)، كما فسرها الإسكندر الأفروديسي، وثامسطيوس الإسكندري، وهي التي استحالت إلى نظرية الفيض Emanation التي تقول بها الأفلاطونية الحديثة والتي انتقلت إلينا عن طريق الفارابي وابن سينا وابن باجة، وأصبحت هذه الفلسفة العربية في نهايتها كما كانت في بدايتها هي فلسفة أرسطو استحالت أفلاطونية حديثة؛ ولكن