لم يكن هذا القيد ثقيلاً على اليهود أنفسهم (٧). وقد حاقت باليهود في تلك البلاد عدة اضطهادات، ولكن الضرائب المفروضة عليهم كانت أخف عبئاً منها في غير تلك البلاد، وكانت الحكومة في الأحوال العادية تتعاون معهم، وكان ملوك الفرس يعترفون بالإجزيلارك أي زعيم الطائفة اليهودية ويجلونه. وكانت أرض العراق وقتئذ خصبة تسقيها مياه النهرين، ولذلك أضحى من فيها من اليهود زُرّاعاً أثرياء وتُجاراً ناشطين، ومنهم طائفة من بينها عدد من جلة العلماء الذائعي الصيت أثرت من عصر الجعة (٨). وتضاعف عدد الجالية اليهودية في بلاد الفرس بسرعة كبيرة لأن دين الفرس كان يبيح تعدد الأزواج. وكان اليهود يتبعون هذه العادة لنفس الأسباب التي كانت تبيحها الشريعة الإسلامية. وكان الكوهنان الطيبان رب ونحمان أثناء تجوالهما يعلنان في كل مدينة يحلان بها عن رغبتهما في زوجات مؤقوتات، لكي يضربا بذلك مثلاً لشبان تلك المدن للحياة الزوجية ويبعداهم على الحياة الإباحية (٩). وفي نحرديا Nehardea، وسورة، ويمبديثا أنشئت مدارس للتعليم العالي، أضحى علماؤها، وأضحت قرارات كواهنها الدينية، موضع الإجلال في جميع أنحاء البلاد التي تشتت فيها اليهود.
وظل اليهود في أثناء ذلك الوقت ينتشرون في جميع البلاد الواقعة حول البحر المتوسط. فمنهم من ذهب لينضم إلى الجاليات اليهودية في بلاد الشام وآسية الصغرى، ومنهم من ذهب إلى القسطنطينية، رغم عداء أباطرة الروم وبطارقتهم، ومنهم من اتجهوا من فلسطين جنوباً إلى جزيرة العرب وعاشوا في سلام وحرية دينية مع بني جنسهم الساميين، واحتلوا في تلك البلاد أقاليم برمتها مثل خيبر، وكاد عددهم في يثرب (المدينة) يكون مساوياً لعدد العرب أنفسهم، واستمالوا إلى دينهم عدد من الأهلين، وهيئوا عقول العرب لما جاء به الإسلام من عقائد يتفق بعضها مع العقائد اليهودية. ومنهم من عبروا البحر الأحمر إلى بلاد الحبشة حيث تضاعف عددهم بسرعة حتى قيل إنهم بلغوا