للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الشعب التي أفسدت نظامها وسخرتها الانقسامات العنصرية، والطائفية، والدينية، كانت هذه الجماهير متقلبة لا يقر لها قرار، متعطشة للدماء، تضطرب وتثور من آن إلى آن، ترشوها الدولة بوجبات الطعام المكونة من الخبز والزيت والخمر بلا ثمن؛ ويسيلها سباق الخيل ومصارعة الوحوش، والرقص على الحبال، والتمثيليات الصامتة الفاحشة البذيئة في الملاهي، والمراكب الإمبراطورية أو الكنسية في الشوارع. وكانت قاعات الميسر لا يخلو منها مكان، وتكاد بيوت العاهرات توجد في كل شارع، بل كانت في بعض الأحيان "تلاصق أبواب الكنائس" (١٧). واشتهرت نساء بيزنطية بدعارتهن وورعهن، كما اشتهر رجالها بحدة الذكاء والطموح والتجرد من الضمير. وكانت كل الطبقات من سكانها تؤمن بالسحر، والتنجيم، والتنبؤ بالغيب، والعرافة، والاتصال بالشياطين، والتمائم ذات القوة المعجزة. وكانت الفضائل الرومانية القديمة قد اختفت حتى قبل اختفاء اللغة اللاتينية. وقضى على الصفات الرومانية واليونانية سيل من الشرقيين فقدوا هم أيضاً مبادئهم الأخلاقية، ولم يستعيضوا عنها إلا بالألفاظ الجوفاء. ومع هذا فإن الكثرة الغالبة من الرجال والنساء في هذا المجتمع المتطرف في دينه وشهواته كانوا مواطنين ومؤدبين وآباء محتشمين يسكنون بعد لهو الشباب إلى حياة الأسر وما فيها من متع وأحزان، ويؤدون الأعمال الدنيوية وهم كارهون. وهؤلاء الأباطرة الذين كانوا يسملون عيون منافسيهم يغدقون الصدقات على المستشفيات وملاجئ الأيتام، والعجزة، ونزل المسافرين المجانية (١٨). وكانت طبقة الأشراف، التي يخيل إلى الناس أن الترف والراحة ديدنها وشغلها الشاغل كل يوم، تضم مئات من الرجال يقبلون على أعمال الإدارة والسياسة بغيرة يختلط بها الطمع في الكسب ولإنشاء، واستطاعوا بطريقة ما، وبالرغم مما يتعرضون له من الانقلابات وما يحاك حولهم من الدسائس، أن ينقذوا الدولة من كل كارثة تلم بها، وأن