محصوراً بين البحر من جهة وسوريا من الجهة الأخرى، وكان هو كل ما يطلق عليه اسم بلاد فينيقية. ولم ير أهله أن استيطان جبال لبنان القائمة في شرق بلادهم أو إخضاع هذا الإقليم لحكمهم عملاً خليقاً باهتمامهم؛ بل كانوا يقنعون بأن يظل هذا الحاجز المبارك قائماً شرق بلادهم يحميهم من الأمم ذات النزعة الحربية التي كانوا يحملون بضائعها إلى خلجان البحار.
وقد اضطرتهم هذه الجبال إلى العيش على ظهر البحار، وظلوا من عهد الأسرة السادسة المصرية إلى ما بعدها أنشط تجار العالم القديم؛ ولما تحرروا من حكم مصر (حوالي ١٢٠٠ ق. م) أضحوا سادة البحر الأبيض المتوسط، ولم يكتفوا بنقل التجارة، بل كانت لهم مصنوعات عدة من الزجاج والمعادن، والمزهريات المنقوشة المطلية، والأسلحة والحلي والجواهر. وقد احتكروا لأنفسهم صنع الصبغة الأرجوانية التي استخرجوا مادتها من حيوان بحري رخوي يكثر بالقرب من شواطئهم (١٨)؛ ومن ثم اشتهرت نساء صور باستخدام الألوان الزاهية الجميلة التي كن يصبغن بها ما برعن في تطريزه من الأقمشة. وكانوا ينقلون هذه المصنوعات والفائض الذي يمكن نقله من غلات الهند والشرق الأقصى - من حبوب، وخمور، ومنسوجات، وحجارة كريمة - إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط قريبة كانت منهم أو بعيدة عنهم. وكانت سفنهم تعود من هذه الموانئ مثقلة بالرصاص، والذهب، والحديد من شواطئ البحر الأسود الجنوبية؛ وبالنحاس، وخشب السرو، والغلال من قبرص (١)، وبالعاج من إفريقية؛ والفضة من أسبانيا؛ والقصدير من بريطانيا؛ وبالعبيد من كل مكان. وكانوا تجاراً دهاه؛ أغروا في مرة من المرات أهل أسبانيا بأن يعطوهم نظير شحنة من الزيت مقداراً من الفضة لم تتسع له سفائنهم؛ فما كان من الساميين الماكرين إلا أن استبدلوا الفضة بما
(١) إن الاسمين الإنجليزيين للنحاس والسرو Copper and Cypress مشتقان من لفظ قبرص.