المجاديف يحرسونها وهم متأهبون للاتجار أو للحرب على السواء. وكانت هذه السفن الضعيفة لا تسترشد ببيت الإبرة ولا يزيد غاطسها في الماء على خمسة أقدام. ومن أجل ذلك كانت تخشى أن تبتعد عن شاطئ البحر وظلت زماناً طويلاً لا تجرؤ على السفر بالليل؛ ثم ارتقى فن الملاحة شيئاً فشيئاً حتى استطاع أدلاء السفائن الفينيقيون أن يسترشدوا بالنجم القطبي (أو النجم الفينيقي كما كان يسميه اليونان) ويتوغلوا في المحيطات، ويطوفوا آخر الأمر حول إفريقية، فساروا أولا بإزاء الساحل الشرقي متجهين نحو الجنوب و"كشفوا" رأس الرجاء الصالح قبل أن يكشفه فاسكو دا جاما بنحو ألفي عام. وفي ذلك يقول هيرودوت:"ولما أقبل الخريف، نزلوا إلى البر، وزرعوا الأرض، وانتظروا الحصاد، فلما أن حصدوا الحَب، أقلعوا بسفائنهم مرة أخرى. ولما أن مرت عليهم في عملهم هذا سنتان وصلوا في السنة الثالثة إلى مصر بعد أن طافوا بأعمدة هرقول (جبل طارق) "(٢٣). ألا ما أعظم ما تقدّمنا عن أولئك الأقوام!
وأقاموا لهم حاميات في نقط منيعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط مازالت تكبر حتى أضحت مستعمرات أو مدناً غاصة بالسكان، أقاموها في قادز وقرطاجة، ومرسيلية، ومالطة، وصقلية، وسردانية، وقورسقة، بل وفي إنجلترا البعيدة. واحتلوا قبرص، وميلوس، ورودس (٢٤)، ونقلوا الفنون والعلوم من مصر، وكريت، والشرق الأدنى، ونشروها في اليونان، وفي إفريقية، وإيطاليا، وأسبانيا؛ وربطوا الشرق بالغرب بشبكة من الروابط التجارية والثقافية، وشرعوا ينتشلون أوربا من براثن الهمجية.
وازدهرت المدن الفينيقية التي كانت تغذيها هذه التجارة الواسعة، والتي كانت تحكمها طبقة من التجار الأثرياء حذقت فنون السياسة الخارجية والمالية، وضنت بثروة البلاد أن تبدد في الحروب الخارجية. وأصبحت هذه المدن على مدى الأيام من أغنى مدن العالم وأقواها. ومن هذه المدن مدينة بيلوس التي كانت