تظن نفسها أقدم مدن العالم كلها وأنها أنشأها الإله إل في بداية الزمان. وظلت هذه المدينة إلى آخر أيامها القصبة الدينية لفينيقية. وكان البردي من أهم سلعها التجارية فاشتق اليونان من اسمها اسم الكتاب في لغتهم ببلوس - Biblos - ومن هذه الكلمة نفسها اشتقت كلمة Bible الإنجليزية اسماً للكتاب المقدس.
وكان إلى جنوبي ببلوس وعلى بعد نحو خمسين ميلاً منها مدينة صيدا؛ ولم تكن في بداية أمرها إلا حصناً من الحصون، ولكنها نمت نمواً سريعاً فكانت قرية، ثم بلدة، ثم مدينة مزدهرة غنية، أمدت خشيار شاي بأحسن المراكب في أسطوله. ولما أن حاصرها الفرس فيما بعد واستولوا عليها أبت عليهم أنفتهم وعزة نفوسهم أن يسلموها طائعين إلى أعدائهم فأضرموا النار في مبانيها ودمروها عن آخرها، وهلك في حريقها أربعون ألفاً من سكانها (٢٥). ثم أعيد بناؤها بعدئذ حتى إذا جاءها الإسكندر وجدها مدينة مزدهرة، وسار بعض تجارها المغامرين في مؤخرة جيشه إلى بلاد الهند بقصد"الاتجار"٢٦).
وكانت أعظم المدن الفينيقية كلها مدينة صور - أي الصخرة -؛ وقد أنشئت على جزيرة تبعد عدة أميال عن البر. وبدأت هي أيضاً حصناً، ولكن ميناءها الأمين وسلامتها من الغزو سرعان ما جعلاها حاضرة البلاد الفينيقية كلها، ومأوى الخليط من التجار والعبيد جاءوها من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. وما أن حل القرن التاسع قبل الميلاد حتى كانت صور مدينة غنية في عهد ملكها حيرام صديق الملك سليمان؛ وفي أيام زكريا (حوالي ٥٢٠ ق. م) كانت الفضة التي تجمعت فيها كأنها التراب، وكان الذهب كأنه "وحل الطرقات"(٢٧)، ويقول عنها استرابون:"إن بيوتها من طبقات كثيرة، بل إنها أكثر طبقات من بيوت رومة"(٢٨)، وقد ظلت بفضل ثروتها وبسالة أهلها مستقلة إلى أيام الإسكندر. ورأى هذا الشاب المتغطرس في هذا الاستقلال تحدياً لعظمته فأخضعها بأن بنى طريقاً لها في البحر جعل منها شبه جزيرة ثم قضى