في الكنائس القوطية (٦٢). وكانت البوصلة، والطباعة، والبارود معروفة في بلاد الشرق قبل انتهاء الحروب الصليبية، ولعلها انتقلت إلى أوربا في أعقاب تلك الحروب. ويلوح أن الأوربيين كانوا أشد جهلاً من أن يعنوا بالشعر، والعلوم، والفلسفة "العربية"؛ ولهذا فإن تأثر الغرب بهذه المؤثرات الإسلامية جاء عن طريق أسبانيا وصقلية لا عن طريق اتصالهم بالمسلمين أثناء هذه الحروب. كذلك تأثر الغرب بالثقافة اليونانية بعد استيلاء الأتراك على القسطنطينية، ومن دلائل هذا التأثر أن موربيك Moerbeke كبير أساقفة كورنثة الفلمنكي أمد تومس أكويناس بتراجم لكتب أرسطو عن أصولها اليونانية مباشرة. وفي وسعنا أن نقول بوجه عام إن ما عرفه الصليبيون من أن أتباع الدين المسيحي قد يكونون مثلهم خلائق متحضرين، كريمين، يوثق بهم ويعتمد عليهم، أو يفوقونهم في هذه الصفات، إن ما عرفه الصليبيون من هذا قد بعث بلا ريب بعض العقول على التفكير، وكان سبباً في إضعاف العقائد الدينية المقررة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولقد تحدث بعض المؤرخين أمثال وليم كبير أساقفة صور عن الحضارة الإسلامية حديثاً ملؤه الإجلال بل والإعجاب في بعض الأحيان، لو سمعه المحاربون في الحملة الصليبية الأولى لهزمهم وصدم مشاعرهم وكبرياءهم (٦٣).
وعظم سلطان الكنيسة الرومانية وعلت مكانتها إلى أبعد حد بسبب الحملة الصليبية الأولى، ثم أخذت تضعف بالتدريج بسبب الحملات التي تلتها. وكان منظر الشعوب المختلفة، والأشراف العظام، والفرسان ذوي الكبرياء، والأباطرة والملوك في بعض الأحيان، متحدين جميعاً للدفاع عن قضية دينية بزعامة الكنيسة، كان هذا المنظر سبباً في رفع مكانة البابوية وعلو شأنها. فقد كان مندوبو البابا يدخلون كل قطر وكل أبرشية، يحثون الناس على التطوع للحروب الصليبية ويجمعون لها الأموال، وكان سلطانهم يزاحم سلطان رجال الدين في تلك الأقطار والأبرشيات ويطغى عليه في بعض الأحيان؛ وبفضلهم أصبح