ترى أي صنف من الناس كان أولئك التجار الذين كانوا يرسلون بضائعهم في هذه الطرق مجتازة أرضين كثيرة متباينة يسكنها أقوام ذوو وجوه مرتابة ولغات غريبة وعقائد متحاسدة متباغضة؟ لقد كان أولئك التجار ينتمون إلى شعوب مختلفة ويأتون من بلاد كثيرة متباينة، ولكن عدداً كبيراً منهم كان من الشوام، واليهود، والأرمن، واليونان. وقلما كانوا من صنف رجال الأعمال الذين نعرفهم اليوم رجالاً آمنين جالسين خلف مكاتبهم في مدنهم؛ بل كانوا في العادة ينتقلون في البلدان مع بضائعهم؛ وكثيراً ما كانوا يقطعون مسافات طويلة ليبتاعوا بأرخص الأثمان ما يحتاجونه من البضائع من الأماكن التي تكثر فيها، ثم يعودون ليبيعوها غالية في البلدان التي يندر فيها وجودها. وكانوا في العادة يشترون ويبيعون بالجملة en gross كما يقول الفرنسيون. وقد ترجم الإنجليز لفظ grosser إلى grocer ثم أطلقوا اللفظ بهذه الصيغة grocer على من يبيع التوابل بالجملة (١٢). وكان التجار خلائق مغامرين، ومرتادين؛ وفرسان القوافل مسلحين بالخناجر والرشا، متأهبين للقاء قطاع الطرق، والقراصنة، وآلاف مؤلفة من البلايا والمحن.
وربما كان أشد ما يضايقهم هو اختلاف الشرائع وتعدد جهات التقاضي، وكان من أهم أعمالهم وضع قانون دولي للتجارة والملاحة يتقدم على مر الأيام. لقد كان التاجر إذا سافر براً يخضع إلى قضاء محكمة جديدة، وربما خضع إلى قوانين مختلفة في أملاك كل سيد إقطاعي، وكان من حق هذا السيد أن يستولي على بضائعه إذا سقطت على الأرض في الطريق، وإذا جنحت سفينته أصبحت بمقتضى "قانون التحطيم" من حق السيد الذي جنحت عند ساحل أرضه؛ وكان مما يفتخر به أحد السادة البريطانيين أن صخرة خطرة في ساحل بلاده كانت أثمن درة في تاجه (١٣). وظل التجار يقاومون هذا الظلم الصارخ عدة قرون حتى بدءوا يلغونه تدريجاً في القرن الثاني عشر. وكان التجار اليهود