بنورمندية، أنفق الأموال الطائلة في توفير الطعام للمحتاجين من أهلها. وكان يقدم الصدقات كل يوم للمرضى، والفقراء، والأرامل، والنساء اللاتي في حالات النفاس، والعاهرات، والعاجزين من العمال "حتى ليتعذر علينا أن نحصى صدقاته"(٧٤). ولم يكن ليفسد هذه الصدقات بإذاعتها بين الناس. وكان الفقراء الذين يغسل أقدامهم يختارون من بين المكفوفين، وكان يعمل عمله هذا خفية، ويقال لهؤلاء إن الملك هو الذي يخدمهم. ولم يكن أحد من الناس يعرف زهده وتعذيبه نفسه حتى شوهدت آثارهما على جسمه بعد وفاته (٧٥).
وأصيب أثناء حروبه في عام ١٢٤٢ بالملاريا في مناقع سانتوج Saintonge؛ وأسفر هذا المرض عن إصابته بفقر دم خبيث، وأوشك على الموت في عام ١٢٤٤. ولعل هذه المصائب قد زادت روحه الدينية تدريجاً، فإنه ما كاد يشفي من مرضه حتى أقسم أن يشن الحرب الصليبية، وأضعف صحته بانهماكه في زهده وتعذيب نفسه. ولما عاد من حربه الصليبية الأولى ولما يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره كان قد انحنى جسمه وأصابه الصلع، ولم يبق من نضرة شبابه وجماله إلا ما يخلعه عليه إيمانه الساذج من خلق جميل وإرادة طيبة. وكلن يرتدي قميصاً من الشعر، تحت مئزر الرهبان الرمادي، ويأمر بأن يضرب بسلاسل صغيرة من الحديد، ويحب طائفتي الرهبان الجديدتين- الفرنسسكان والدمنيكان، ويهبهم المال بلا حساب، ولم يمتنع عن أن يكون هو راهباً فرنسسكانيا إلا بعد جهد جهيد. وكان يحضر الصلوات مرتين كل يوم، ويتلو الأدعية المقررة أدعية الساعات الثالثة والسادسة والتاسعة ودعاء المساء، ويتلو صلاة العذراء (١) خمسين مرة قبل أن يأوي إلى فراشه، ويصحو في منتصف الليل لينضم إلى قساوسته في صلاة السحر في كنيسة قصره (٧٦). وكان يمتنع من مباشرة زوجه في صيام الميلاد
(١) Ave Maria ومطلعها "السلام لك يا مريم". المترجم