كان في هذه القرون نفسها كثيرون من رجال الدين المولعين بالكتب الوثنية القديمة والحريصين على الاحتفاظ بهذه الكتب. وكانوا في بعض الحالات يفعلون سلاح النقد الموجه إليهم بتفسير معنى الشعر الوثني تفسيراً يتضمن أعظم العواطف المسيحية؛ واستطاعوا بطريق الاستعارات الظريفة أن يحولوا شِعر أوفد الغرامي إلى شعر يحض على مكارم الأخلاق. وكذلك احتفظ الناسخون في الأديرة بقسم كبير من التراث الأدبي القديم (٨)؛ وكان يقال للرهبنة إذا تعبوا أن الله سيغفر لهم ذنباً من ذنوبهم نظير كل سطر ينسخونه، ويحدثنا أردركس فينالس Ordericus Vitalis أن أحد الرهبان نجا من الجحيم وكان على قيد شعرة منها بحرف واحد نسخه (٩). ويلي الرهبان وحدهم في نسخ المخطوطات القديمة الكتبة الخصوصيون أو المحترفون الذين يستخدمهم الأغنياء أو بائعو الكتب أو الأديرة نفسها. وكان عمل هؤلاء النساخين مجهداً مما جعلهم يدونّون على الصفحات الأخيرة من المخطوطات المنسوخة مطالب غريبة كقول أحدهم:
بهذا يتم جميع الكتاب
فبحق المسيح هات لي جرعة
وظن كاتب آخر أنه خليق بأكثر من هذا فكتب في آخر مخطوطة تلك الخاتمة:"فليجز الكاتب على (عمل قلمه) بفتاة جميلة". (١١)
ولم تفرض كنيسة العصور الوسطى رقابة منظمة على نشر الكتب؛ فإذا تبين أن كتاباً ما مناقض للدين، وكان في الوقت نفسه ذا تأثير قوي ككتاب أبيلار عن التثليث أستنكره مجلس من مجالس الكنيسة، ولكن عدد الكتب كان وقتئذ أقل من أن يكون شديد الخطر على الدين القويم؛ وحتى الكتاب المقدس نفسه كان نادر الوجود في خارج الأديرة، فقد كان نسخُه يحتاج إلى عام كامل، وشراؤه يحتاج إلى إيراد قس أبرشية؛ ولهذا قل من رجال الدين من