العصور يجعلنا نظم الحركة سكوناً، والفروق معدومة من الوجود، ونحسب التغير جموداً؛ ولكن الرغبة في التغيير كانت تلح وقتئذ، كما تلح الآن، في تبديل العادات والثياب، واللغة والأفكار، والشرائع ونظم الحكم، وأساليب التجارة والمال، والأدب والفن. غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا يعلقون أهمية كبرى على ارتقاء الوسائل غير المصحوبة بإصلاح الغايات كما يفعل المحدثون غير المفكرين أهل هذه الأيام.
وفي الحق ا، تراث العصور الوسطى العلمي تراث متواضع، ولكنه يشمل فيما يشمل الأرقام الهندية، والطريقة العشرية، وفكرة العلوم التجريبية، وقسطاً كبيراً من العلوم الرياضية والجغرافيا، والفلك، والبصريات. وفي العصور الوسطى كشف البارود، واخترعت النظارات، والبوصلة البحرية، والساعة ذات الرقاص (١)، وتقطير الكحول - الذي يبدو أشد المخترعات لزوماً للإنسان! وفيها ارتقى أطباء العرب واليهود بالطب اليوناني، وحرر الرواد المسيحيون الجراحة من فنون الحلاقين؛ ونصف المستشفيات التي تقوم الآن في أوربا أنها من منشئات العصور الوسطى وإما أنها مؤسسات باقية من ذلك العهد جددت في العصور الحديثة، ولقد ورث العلم الحديث من طريقة التفكير في العصور الوسطى نزعته الدُّوَلية، وقسطاً غير قليل من لغته الدُّوَلية.
وأجل ما ورثه العالم من العصور الوسطى بعد التأديب الأخلاقي هو الفن. نعم إن بناء إمبير استيت Empire State Building لا يقل روعة وجلالاً عن كتردائية شارتر، وأنه يدين بعظمته لهندسته وحدها - لثباته رغم ارتفاعه وعتوه ودقة تخطيطه. ولكن اجتماع فنون النحت، والتصوير، والشعر، والموسيقى مع فن العمارة في حياة الكتدرائية القوطية يكسب كتدرائيات أميان،
(١) من حق العرب علينا أن نقول إن هذه المخترعات يكاد يرجع الفضل كله فيها إلى الحضارة الإسلامية. (المترجم)