استطاع أن يرى فيه سعادة بورجيا بعد أن أفلح في اقتناص الذين ائتمروا به، أو خنقهم، أو سجنهم. وكنت هذه حوادث هزت مشاعر إيطاليا بأجمعها؛ أما أثرها في مكيفلي بعد أن التقى بالطاغية الباهر وجها لوجه، فقد كانت دروساً في الفلسفة. ذلك أن رجل الأفكار وجد نفسه وجها لوجه أمام رجل الأعمال فكرمه هذا وعظمه، وتحرق قلب السياسي الشاب حسداً حين أدرك المسافة التي لابد له أن يقطعها من التفكير التحليلي النظري إلى العمل الرائع المحطم. فها هو ذا رجل يصغره بست سنين، قد قضى في سنتين اثنتين على أكثر من عشرة طغاة مستبدين، وأصدر الأوامر إلى أكثر من عشر مدن، وأثبت أنه الكوكب الوضاء في سماء زمانه؛ وما أضعف ما بدت الألفاظ أمام هذا الشاب الذي لم يكن ينطق منها إلا بالقليل، وكان ينطق بهذا القليل في ازدراء! وأصبح سيزارى بورجيا من تلك الساعة بطل فلسفة مكيفلي، كما أصبح بسمارك فيما بعد بطل فلسفة أخلاقية فوق الخير والشر، ونموذجاً للإنسان الأسمى.
ولما عاد مكيفلي إلى فلورنس في عام ١٥٠٣، أدرك أن بعض رجال الحكومة يظنون أن بورجيا الجريء المتهور قد غلبه على أمره فبدل عقليته غير ما كانت. ولكن جهوده التي بذلها لتحقيق مصالح مدينته أعادت إليه احترام سديني حامل شعار المدينة ومجلس العشرة الحربي. وشهد في عام ١٥٠٧ انتصار مبدأ من مبادئه الأساسية. فقد كان من زمن بعيد يقول إنه ما من دولة تحترم نفسها تقبل أن تعهد بالدفاع عن أراضيها إلى جنود مرتزقين، وذلك لأنها لا تستطيع الركون إليهم في الأزمات، ولأن في مقدور العدو المسلح بالقدر الكافي من الذهب أن يبتاعهم هم وقائدهم. ولهذا يرى مكيفلي أن يجب إنشاء قوة حرس وطني من أبناء البلاد، والأفضل أن تكون هذه القوة مؤلفة من الفلاحين الأشداء الذين ألفوا المشاق وعاشوا