وازداد النظام الصناعي قوة باتساع مداه وباختفاء العلاقة الشخصية بين العامل وصاحب العمل. ذلك أن رقيق الأرض في نظام الإقطاع كان يستمتع ببعض الحقوق في مقابل ما يفرض عليه من الأعباء، فقد كان ينتظر من سيده أن يعنى به إذا مرض، أو حلت بالبلاد أزمة اقتصادية، أو شبت فيها نار حرب، أو بلغ سن الشيخوخة. وكانت نقابات الحرف في المدن الإيطالية تؤدي بعض هذه الواجبات للطبقة العليا من العمال، ولكن العامل "الحر" كان في العادة "حراً" في أن يموت جوعاً حين لا يجد عملا يقتات منه، فإذا وجده كان لابد له أن يقبله بالشروط التي يفرضها عليه صاحب العمل نفسه، وما كان أقسى هذه الشروط. وكان كل اختراع وكل تحسين في وسائل الإنتاج وفي الأنظمة المالية يزيد من أرباح صاحب العمل، وقلما كان يزيد الأجور. وكان رجال الأعمال يقسو بعضهم على بعض بقدر ما يقسون على عمالهم. فنحن نسمع عن كثير من الحيل التي كانوا يلجئون إليها في تنافسهم، وعن عقودهم الخادعة؛ وعن وثائقهم المزورة التي يخطئها الحصر (٧٣). فإذا ما تعاونوا كان تعاونهم يهدف لخراب بيوت منافسيهم في بلد غير بلدهم. بيد أننا نجد أحياناً أمثلة دالة على الإحساس بواجب الشرف بين كثيرين من التجار الإيطاليين، واشتهر رجال المال في إيطاليا بالأمانة والاستقامة في المعاملة أكثر مما اشتهر بهما أمثالهم في أوربا (٧٤).
وكانت الأخلاق الاجتماعية مزيجاً من العنف والعفة. وإنا لنجد في الرسائل التي كانت تتبادل بين الأفراد في ذلك الوقت شواهد كثيرة على ما كانوا يتصفون به من الرقة والحنان؛ ولم يكن الإيطاليون العاديون يضارعون الأسبان في شراستهم أو الجنود الإيطاليين في إقدامهم على ذبح أعدائهم جماعات. ولكن ما من أمة في أوربا كان فيها من الاغتياب ونهش الأعراض مثل ما كان يدور حول جميع الرجال الأرزين في روما؛ وهل يستطيع أحد غير الإيطاليين في عهد النهضة أن يصف أريتينو بأنه من أولياء