التيار القوي كان يجرفهم معه في بعض الأحيان، وكانت المحاولات التي يبذلونها لإصلاح مفاسد الكنيسة يحول دون نجاحها عدم رغبة الكهنة في الإقلاع عن عاداتهم السيئة أو محافظتهم على مصالحهم المكتسبة. على أنهم هم أنفسهم لم يبلغوا من الفساد المبلغ الذي يصورهم به المؤرخون المغالون، غير أنهم كانوا أكثر اهتماماً بإعادة سلطان البابوية السياسي منهم بإعادة صلاح الكنيسة الأخلاقي. وفي ذلك يقول جوتشيارديني:"إن الحبر الأعظم ليوصف بالصلاح ويمتدح إذا لم يكن أكثر شراً من غيره من الناس"(١١٤). ولقد بذل وعاظ ذلك العصر العظام جهوداً جبارة لإصلاح ذلك الفساد؛ ونذكر منهم على سبيل المثال القديس برناردينو السينائي، وروبيرتودا لتشي Roberto da Lecce، وسان جيوفني دا كابستراتوا، وسفنرولا. ولقد كانت عظاتهم، وكان مستمعوهم، جزءاً من لون ذلك العصر وطبيعته. فقد كانوا ينددون بالرذيلة بأقوال مفصلة واضحة، أذاعت بين الناس شهرتهم وجذبت إليهم القلوب؛ وقد أقنعوا رجال الإقطاع بالتخلي عن عادة الأخذ بالثأر، وبالعيش في وئام وسلام، وحملوا الحكومات على أن تطلق سراح المدنيين المفلسين، وتسمح للمنفيين بأن يعودوا إلى أوطانهم آمنين؛ وعادوا بالآثمين الذين قست قلوبهم من الذنوب إلى ما أهملوه من الصلاة ومن مراعاة لقواعد الدين.
غير أن هؤلاء الوعاظ الأقوياء أنفسهم قد أخفقوا فيما كانوا يبتغون؛ فقد عادت إلى الظهور تلك الغرائز التي تكونت خلال مائة ألف عام قضاها الإنسان صياداً متوحشاً، حين خرجت من قشرة الأخلاق التي تشققت بعد أن فقدت تأييد العقيدة الدينية واحترام السلطة العليا والقانون الثابت المقرر. ولم يعد في مقدور الكنيسة التي كانت من قبل تحكم الملوك أن تحكم أو تطهر نفسها. وكان انهيار الحرية السياسية في دولة إثر دولة قد ثلم حدة الشعور الوطني الذي بث روح الحرية والنبل في حكومات مدن العصور الوسطى