وأتاح للأهليين نظاماً سياسياً متصلا بعض الاتصال، وهدأ من حدة الانفرادية العارمة التي أوجدت النهضة ثم قضت عليها آخر الأمر. فأما الذين كانوا يرجون النظام ويسعون إليه فقد ارتضوا هذا الخضوع الذي أنجاهم من الفوضى؛ وأما الذين كانوا يعتزون بالحرية فقد حزنوا لما أصابها بهذا السلطان. ولكن أكلاف السلم مع الخضوع للأجنبي وما فرضته على الإيطاليين من عقوبات، سرعان ما أضرت باقتصاد إيطاليا وحطمت روحها المعنوية، ذلك أن الضرائب الفادحة التي فرضها الولاة للاحتفاظ بمظاهر الأبهة لأنفسهم ولأداء رواتب الجند ونفقاتهم، وصرامة قوانين أولئك الولاة، واحتكار الدولة للحبوب وغيرها من ضروريات الحياة، كل هذا أضر بالصناعة والتجارة، يضاف إلى هذا أن الأمراء الإيطاليين ساروا هم أيضاً على سنة الولاة الأجانب ففرضوا أفدح الضرائب وأشدها فتكاً بالنشاط الاقتصادي الذي كان يمدهم بحاجتهم من المال، وذلك لكيلا لا يكونوا أقل من الولاة خيلاء وترفاً. واضمحلت شؤون النقل البحري إلى حد لم يعد في وسع السفن الإيطالية الكبيرة أن تحمي نفسها من قراصنة البربر الذين كانوا يهاجمون السفن والسواحل، ويأسرون الإيطاليين ويبيعونهم عبيداً لسراة المسلمين، ولم يكن الجنود الأجانب الذين يقيمون في بيوت الإيطاليين على الرغم من سكانها، أقل إضراراً بالإيطاليين من القراصنة أنفسهم؛ فقد كان هؤلاء يجهرون باحتقارهم لهذا الشعب الذي لم يكن له من قبل نظير وحضارته التي لم تبلغ شأنها حضارة أخرى سابقة؛ وكان لهؤلاء حظ وافر فيما اتسم به ذلك العصر من انحلال في الأخلاق الجنسية.
وحلت بإيطاليا كارثة أخرى، كانت أشد وقعاً عليها من أضرار الحرب والخضوع إلى الأسبان؛ تلك هي أن الطواف برأس الرجاء الصالح (١٤٨٨)، وافتتاح الطريق المائي الكامل إلى الهند (١٤٩٨)، قد أنقصا نفقات النقل بين الأمم الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي وبلاد آسية الوسطى